من تقاليد جماعة "الإخوان المسلمين" الراسخة في مصر أن يوجه مرشدها رسالة أسبوعية لأبناء الجماعة والأمة كلها؛ وهي رسالة تحدد، إلى درجة كبيرة، الانشغالات الراهنة، وترسي الأولويات، وتشخص المشكلات، وتقترح الحلول. وفي رسالته للأسبوع الماضي، دعا الدكتور محمد بديع مرشد الجماعة الشعب المصري إلى "التمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية، والعودة إلى منهج الله وشريعته وقوانينه".
إنه توجيه استراتيجي، يبدو أن الجماعة، في أعلى مستوى قيادي لها، تؤمن به وتعمل من أجله، وتراه أولوية ضرورية في هذا التوقيت بالذات.الرئيس مرسي نفسه، خطب في أحد المساجد في العشرة أيام الأخيرة من شهر رمضان، فقال إن "القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما الأساس للدين، ولا يوجد أي أساس غيرهما... القرآن الكريم لم يترك شيئاً إلا وتكلم عنه وبيّنه، حتى لو كان من أمور الحكم".ليس هذا فقط، لكن مرسي كان قد تعهد بوضوح خلال تنافسه الشرس مع خصمه أحمد شفيق في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل أكثر من شهرين، بتطبيق الشريعة الإسلامية، التي أكد مراراً قبل ذلك أنها "خير كلها".هناك الكثير من الدلائل على عملية منسقة لا تهدف فقط لتطبيق الشريعة، كما يفهمها "الإخوان المسلمون" وحلفاؤهم "السلفيون"، ولكن أيضاً لـ"أسلمة المجال العام"، والمقصود طبعاً ليس إدخال المصريين في الدين الإسلامي، لأن ذلك الأمر حدث قبل 1400 سنة، ولأن المصريين متدينون بطبعهم، والإسلام يخدم ويصان ويأتي في أفضل مكانة في بلادهم على مدى قرون، ولكن المقصود هو "إغراق المجال العام بمظاهر الأسلمة من دون أن يعني هذا تغيراً فارقاً في السلوك والمعاملات".لو قام أي باحث بمحاولة لإحصاء الألفاظ من نوع "يصلي"، "المسجد"، "الشريعة"، لوجد أنها باتت الأكثر استخداماً في المواد الإخبارية ذات الطبيعة السياسية بعد وصول الرئيس مرسي إلى كرسي الرئاسة.ينشر عن مرسي الكثير من الأخبار كل ساعة، لكن أكثرها يتعلق بصلاته والمساجد التي يصلي فيها؛ وهو أمر امتد أيضاً ليشمل رئيس الوزراء هشام قنديل، وحتى المحافظين الجدد الذين تسلموا مناصبهم للتو، حيث بدأ تعرف المجال العام إليهم من خلال أخبار من نوع: "محافظ القاهرة يؤم الموظفين في الصلاة"، و"محافظ السويس يصلي في مسجد..."، و"محافظ كفر الشيخ يزور العلامة الإسلامي الشيخ...".أمس الأول الجمعة، كان مرسي يصلي في مسجد "السيدة زينب" خلف مفتي جماعة "الإخوان المسلمين"، بينما صلى رئيس وزرائه في مسجد بمنطقة "المنيل"، واختار كل محافظ من المحافظين مسجداً للصلاة فيه، وقد واكب الصحافيون الجميع وعدسات المصورين.المساجد الشهيرة تشهد عادة خطباً مؤثرة، وقد اتخذت خطب الجمعة منحى سياسياً واضحاً في أعقاب ثورة 25 يناير؛ لذلك فقد خطب إمام مسجد "مصطفى محمود" الشهير في منطقة المهندسين بمحافظة الجيزة مندداً بـ"الفنانين الذين يقدمون أعمالاً تبعد عن الرسالة السامية للفن، ويؤدون أعمالاً تؤدي إلى فساد الأخلاق وانتشار المحرمات وازدراء الأديان، ويجب توقيع عقوبة مشددة عليهم". وفي الإسكندرية، خطب الشيخ أحمد المحلاوي إمام مسجد "القائد إبراهيم" موبخاً "الذين انتخبوا شفيق"، ومطالباً هؤلاء بأن "يوقظوا ضمائرهم"، ومتسائلاً: "أين كانت عقولكم حينما انتخبتم هذا الرجل؟".ليت الأمر يقتصر على ذلك، لكن "الجمعية التأسيسية" المعنية بصياغة الدستور الجديد، والتي يهيمن عليها الإسلاميون بالطبع، تريد تغيير المادة الثانية من الدستور، لتكون "أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، بدلاً من إبقاء الوضع على ما هو عليه بخصوص تلك المادة حيث "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". إنها مسألة تهدف بالطبع إلى توسيع دور الدين في التشريع بدرجة كبيرة.ثمة ما هو أخطر، إذ يصر عدد من المنتمين إلى التيار السلفي على إضافة مادة دستورية تقول إن "السيادة لله" في الدستور المصري الجديد."السيادة لله" تعني استعادة الخلاف الجوهري الذي تم حسمه منذ قرون عديدة، وتطرح مجدداً الصراع بين "ابن تيمية" و"ابن رشد"، عما إذا كان "يجب إعمال العقل في تأويل النص الديني أم إبطال إعمال العقل عند تأويل هذا النص؟"، وتطرح السؤال الأهم: "إذا كانت السيادة لله، فمن سينوب عنه في تفعيل تلك السيادة، ومن سيفسر أحكام الله المتعلقة بالسياسة والشأن العام، خصوصاً أن القرآن، كما يرى أصحاب هذا الطرح، لم يترك صغيرة أو كبيرة إلا تحدث عنها، بما في ذلك شؤون الحكم؟".وبالإضافة إلى تلك المواد الدستورية الملغمة، هناك أيضاً مادة جديدة، يبدو أن الموافقة عليها قد حسمت تماماً وهي مادة تحظر المساس بـ"الذات الإلهية، والرسل، وأمهات المؤمنين، والخلفاء الراشدين"... إنها مادة مستحدثة جداً على التشريع المصري؛ فالذات الإلهية وذات الرسل مصونة من دون شك في مصر، ولا يوجد أبداً ما يستدعي النص عليها في الدستور، لكن البعض يدفع بأن تلك المادة تهدف إلى محاربة "المد الشيعي"... وهو مد لا توجد أي دلائل صلبة تشير إليه بالطبع.وفي موازاة تلك الأطر التشريعية التي باتت تعمل وفق استراتيجية واحدة، تجري عمليات تفكيك البنى السياسية والبيروقراطية القديمة بشكل متواصل، وهي مسألة إيجابية بالطبع بالنظر إلى أن تلك البنى كانت في حوزة دولة مبارك الفاسدة، وشاركت في إنتاج الظروف التي قادت إلى ثورة يناير، لكن الأمر المثير للانتباه أن عمليات الإحلال تضمن للإسلاميين الحصة الأكبر في تلك المؤسسات، حتى لو كانت ذات طبيعة إعلامية أو حقوقية أو رقابية.يمكن بالطبع تفهم رغبة الحكام الجدد في مصر في أن يحكموا من خلال رجالهم وتشريعاتهم ووسائطهم، خصوصاً أنهم وصلوا إلى الحكم عبر انتخابات نزيهة. ويمكن أيضاً تفهم أنهم أصحاب "رسالة" أو "مشروع" يريدون له التفعيل، وأن مشروعهم "إسلامي" يقوم على تسييد فهم خاص للإسلام، لكن ما لا يمكن فهمه أو قبوله أن يقتصر هذا المشروع على بعض المسائل الشكلية التي لم تنفذ أبداً إلى الجوهر.بعد ستين يوماً من عمر رئاسة مرسي، لم يلمس الجمهور في مصر أي تغيير إيجابي على أي صعيد، ورغم تعهده بإنجاز تقدم وحلّ مشكلات خمس خلال المئة يوم الأولى من عهده في قطاعات الأمن والمرور والخبز والغاز والنظافة، فإن تلك القطاعات بالذات لا تشهد إلا التراجع وتفاقم الأزمات. لم تمر المئة يوم الأولى من رئاسة مرسي، لكن الفترة السابقة في تلك الرئاسة تشير إلى أن المصريين لم يحصلوا على ما كانوا يتوقعونه حتى الآن، وأن الرئيس لم يف بتعهداته حتى تلك اللحظة، وفي المقابل فإن كل ما حصل عليه الجمهور المأزوم هو المزيد من أصحاب اللحى في مواقع المسؤولية، والأخبار المتتابعة عن أداء الصلوات، والمزيد من الخلط بين السياسة والدين، ومحاولة فرض "تطبيق الشريعة"، كما يفهمها الإسلاميون، على الأولويات الوطنية، من دون أي تقدم واضح على الأرض يحل مشكلات الجماهير ويلبي حاجاتها.المصريون متدينون ومؤمنون وفخورون بالإسلام، لكنهم لن يقبلوا مقايضة احتياجاتهم ومتطلباتهم بأقوال دينية تدغدغ مشاعرهم وعمليات "أسلمة شكلية" لا تحل مشكلاتهم.* كاتب مصري
مقالات
مصر تتأسلم... ومشكلاتها تتفاقم
09-09-2012