ألقى الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون واحداً من أفضل خُطَبِه على الإطلاق في المؤتمر الوطني الديمقراطي الأخير. وكانت واحدة من أطول جولات التصفيق والاستحسان عندما قال إن تعيين الرئيس باراك أوباما لهيلاري كلينتون وزيرة للخارجية رغم أنها كانت المنافس السياسي الرئيسي له أثبت أن "الديمقراطية ليست بالضرورة رياضة دم".

Ad

ولقد عكس ذلك القدر من التصفيق والاستحسان وجهة نظر أغلبية الناخبين الأميركيين الذين يرون أن سياسة الولايات المتحدة أصبحت حزبية أكثر مما ينبغي، وأن المنافسين أصبحوا أكثر اهتماماً بمهاجمة بعضهم بعضا- بالإيذاء المعنوي والبدني- من تركيزهم على القضايا السياسية، ولكن المغزى الحقيقي من كلام كلينتون هو أن قدرة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على الذهاب إلى دول أخرى والعمل مع منافسها السياسي السابق في السعي إلى تحقيق المصلحة الوطنية يُعَد مثالاً قوياً للطريقة التي يفترض أن تعمل بها الديمقراطية.

وهي حجة بالغة الأهمية، ذلك أن الديمقراطية في العديد من الدول تظل- حرفياً- رياضة دم، فقيمة صناديق الاقتراع تتلخص في أنها وسيلة للاستيلاء على السلطة، ثم مضايقة واحتجاز، بل حتى قتل الخصوم والمنافسين. وكما يقول الشعار: "رجل واحد، وصوت واحد، ومرة واحدة". والواقع أن الصندوق الوطني للديمقراطية في الولايات المتحدة يصف بعض البلدان بأنها "دكتاتوريات انتخابية".

ويخشى كثيرون أن تنتهي الصحوة العربية إلى مثل هذه النتيجة، حيث تطيح الحركات الشعبية بالطغاة، فقط لكي تنصب في محلهم طغاة جدد عن طريق الانتخابات. وتتلخص الوسيلة الوحيدة لتجنب هذه النتيجة في الالتزام بالانتخاب الحر النزيه للحكومات وليس الزعيم أو الحزب المنتخب، حتى لو كان المنتصر معادياً بصراحة لمصالحك.

وهذه أيضاً معضلة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط الذي يعيش الآن ثورة مستمرة، فعلى مدى ثلاثين عاماً دعمت الحكومة الأميركية حكاماً علمانيين برروا قبضهم بيد من حديد على السلطة بالإصرار على أن الخيار كان إما بينهم وإما بين "الإسلاميين" الذين صوروهم بوصفهم متعصبين دينياً وعازمين على إعادة بلدانهم إلى العصور الوسطى. والآن يتعين على الولايات المتحدة أن تقنع الجماهير المتشككة بأنها على استعداد للعمل مع الحكومات الإسلامية المنتخبة.

والواقع أن هؤلاء الذين يعتقدون عن اقتناع في القدرة الكلية التي تتمتع بها الولايات المتحدة وعزمها على ملاحقة مصالحها في منطقتهم من غير الممكن أن يقتنعوا بسهولة أن الحكومة الأميركية أصبحت على استعداد فجأة لمناصرة النتيجة التي لم تكن راغبة فيها، بل إن بعض الأقباط المسيحيين والأحزاب الليبرالية تظاهروا ضد هيلاري كلينتون أثناء زيارتها لمصر في يونيو الماضي، لأن الولايات المتحدة في اعتقادهم كانت راغبة في وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة.

ينبغي لسياسة الولايات المتحدة في المستقبل أن تجسد قاعدة بسيطة ولكنها قوية: فستتعاون أميركا (من خلال أشكال مختلفة من المساعدات الخارجية) مع أي حكومة يتم اختيارها عبر انتخابات حرة ونزيهة وخاضعة للمراقبة الدولية وتعمل بعد ذلك وفقاً لدستور وطني مصدق عليه شعبياً، مع مراقبة الامتثال لهذا الدستور بواسطة سلطة قضائية مستقلة.

لا يعتقد الأميركيون أن الديمقراطية الليبرالية هي أفضل أشكال الحكم لأن ما يريده "الناس" هو الحق والخير تلقائياً، بل لأنها تضع المصالح في مقابل المصالح. وكما يقول جيمس ماديسون في مجموعة المقالات التي أطلق عليها مسمى الأوراق الفيدرالية: "فمن الأهمية بمكان لأي جمهورية ألا تكتفي بحماية المجتمع من قمع حكامها، بل أن تكون حريصة على حماية جزء من المجتمع من ظلم جزء آخر له".لا شك أن أي مجلس تشريعي تمثيلي حقيقي في القرن الحادي والعشرين لن يقيم نظام حكم يتسامح مع سجن المعارضين السياسيين، وفرض الرقابة، وقمع الأقليات والنساء، والتعذيب، واختفاء المعارضين أو اعتقالهم من دون محاكمة. والحكومات التي تعمل وفقاً لمبادئها الدستورية، حتى عندما يتم تفسيرها وتطبيقها بشكل منقوص أو معيب، لا بد أن تتجنب العودة إلى الدكتاتورية، ومن المرجح أن تكون قادرة على تصحيح ذاتها بمرور الوقت.

وما دامت الحكومات تعمل ضمن هذه القيم الوسيطة العريضة، فيتعين على الولايات المتحدة أن تنظر إلى نفسها قبل إصدار الأحكام على الآخرين، ولقد ألقى نائب الرئيس جوزيف بايدن أيضاً خطاباً قوياً أمام مؤتمر الحزب الديمقراطي، حيث اقتبس عبارة من خطاب تنصيب أوباما فقال: "يتعين على الولايات المتحدة أن تحمل لواء القيادة في العالم، ليس بمثال القوة، بل بقوة المثال". ولكن من المؤسف أن المثال الأميركي أصبح في لحظتنا الحالية مشوهاً بشدة من حيث الممارسة الديمقراطية.

لقد فسرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الدستور الأميركي على النحو الذي يبطل فرض أي قيود على الإنفاق على الحملات الانتخابية، وسمح في الأساس للأثرياء من الأفراد والشركات الأميركية بشراء الانتخابات. ومن المؤكد أن الدعم الذي يقدمه مليونير واحد أعظم قيمة من أي دعم قد يقدمه أي مواطن عادي، وهو ما يُعَد استهزاءً بمبدأ "رجل واحد، وصوت واحد".

فضلاً عن ذلك فإن كلاً من الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة يستخدم سلطته بشكل روتيني في حالة فوزه لإعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية بحيث يميز نفسه على حساب خصومه، وفي بعض الولايات، يحاول الحزب الجمهوري علناً عرقلة التصويت بإلزام المواطنين بإظهار هوية رسمية تحمل صورة شخصية، وهو ما قد يكون الحصول عليه صعباً ومكلفاً، وتشكل مثل هذه المتطلبات نسخة جديدة من ضريبة الاقتراع، التي فرضها الديمقراطيون في الجنوب الأميركي لسنوات لحرمان الناخبين الأميركيين من أصل إفريقي من التصويت.

إن الديمقراطية من غير الممكن أن تعمل كما ينبغي لها إلا إذا كان المبدأ العامل لدى جميع المواطنين هو: "قد أكره ما تمثله، ولكن ما دمت قد انتخبت في ممارسة حرة وما دمت تحكم بالدستور، فسأدافع حتى الموت عن حقك في المنافسة والفوز". وإذا كان للديمقراطية أن تشبه أي شكل من أشكال الرياضة، فيتعين على كل اللاعبين أن يلتزموا بقواعد اللعبة.

* آن ماري سلوتر | Anne-Marie Slaughter ، المديرة السابقة لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية (2009-2011)، وأستاذة السياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»