طوق الحمامة والحوار المتجدد (2– 3)
يأتي التناص مع الأجناس الأدبية الأخرى كملمح ثانٍ من ملامح أدبية (طوق الحمامة). ونعني بالتناصّ تلاقح النصوص عبر المحاورة والاستلهام والاستنساخ بطريقة واعية، أو غير مقصودة. وإن كان الحديث عن الشعر كعنصر أول ضمن سلسلة دلائل النزعة الأدبية/ الجمالية في (الطوق)، فإن التسلسل بعد ذلك يطّرد ليشمل جملة من الأجناس الأدبية الأخرى: كالاستعانة والاستشهاد بـ"الأمثال" و"الأقوال المأثورة" ، و"القرآن"، و"السنة النبوية". ثم تأتي مؤثرات أبعد أثراً نخص منها "قصّ" الأخبار أو "الحكاية"، الأشبه بمنهج كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، وفن "الرسالة" الأقرب إلى نَفَس رسالة ابن القارح للمعري، والأشبه باستجابة أبي حيّان التوحيدي لمسامرة الوزير ابن سعدان، واعتبارها الحافز الأهم لتأليف "الامتاع والمؤانسة". فعلى غرارهما تأتي رسالة ابن حزم في (الألفة والأُلاّف) استجابة لرغبة صديق "على حدّ زعمه". أما "السيرة الأدبية" أو "الترجمة الذاتية"، فلعلها الأكثر حضوراً في "الطوق"، بل الأجدر بلفت الانتباه، كونها تؤسّس لطريقة في البوح والمكاشفة والحديث عن النفس قلّ نظيره في المأثورات التراثية العربية، بل لم يوجد له نظير إلّا في الآداب الغربية اللاحقة لزمن ابن حزم. ثم يأتي "العنوان": "طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف" عنصراً ثالثاً من عناصر الأدبية/ الجمالية في المؤلَّف المعني. إذ لا يجادل أحد بأن تعبير
"طوق الحمامة"، وهو العنوان الرئيس، ينكفئ على الشعرية والغموض، مقارنةً بالوضوح والدقة. أما بقية العنوان أو فرعه: "في الأُلْفة والأُلاّف"، فيميل غالباً إلى الوضوح والتحديد ، ويشير إلى معالجة الكتاب لعلائق وصلات قد تكون أعمّ من الحب ودرجاته. بيد أن القارئ للعنوان الرئيس لأول وهلة، لا يمكن بأية حال أن يستدل على موضوع الكتاب وهو الحب، إلّا إذا مضى قدماً عبر صفحاته الأولى، وتكشّفتْ له مقدمته وتقسيم أبوابه. ذلك أن تعبير "طوق الحمامة" عنوان شعريّ خالص، يفتح أبواباً للتأويل والتحليق، لما يملكه من طاقة إيحائية لا تُنكَر. وبغض النظر عن دلالة "الحمامة" التي طالما كانت رسول المحبين، وطالما مثلت الكائن البريء الرقيق الذي غالباً ما تُسقَط عليه مشاعر التعاطف والفهم والتعزي، وبغض النظر أيضاً عن دلالة "الطوق" بما هو سمة جمالية، وحصار من الألفة والاحتواء، فإن السؤال الذي يبرز في هذا المقام يتبلور حول مدى نجاح مثل هذا العنوان في اختزال رسالة الكتاب وفحواه؟ وأي التوجهين خدم؟ التوجه الأدبي/الجمالي؟ أم التوجه الموضوعي العلمي؟ يبدو للمتأمل أن العنوان بشعريته الظاهرة قد خدم التوجه الجمالي/ الأدبي، واختزل دلالة موضوعه وهو "الحب"، أو عموم هذا الموضوع وسحره وغواياته، ولكنه لم يخدم، يقيناً، التوجه الموضوعي والعلمي في المؤلَّف، وهي رسالة بالغة الأهمية . فـ"طوق الحمامة" من منظور الموضوعية العلمية، عنوان مضلل ومراوغ، ومفتقر إلى الدقة والتحديد، وهو بشعريته مثير للمخيلة لا العقل، وجالب للتصورات والظنون لا اليقين، وقابل للتأويل والقراءات المتعددة. ويبدو أن ابن حزم بتأرجحه ومراوحته بين المادة البحثية بمنهجيتها العقلية، وعنوانها الشعري الجانح نحو الغموض، كان يراهن على مسألة ما للعنوان من أثر في تحفيز وجذب المتلقي، ولعله نجح في هذا المسعى. إذ لا يخفى على قارئ عنوان: "طوق الحمامة"، أن العنوان لا يؤسس لمعرفة بقدر ما يؤسس لإيحاء، وهو إيحاء أشبه بالمصيدة اللطيفة الناعمة التي يخطو نحوها المتلقي كما يخطو في الحُلم. وعليه يمكن اعتبار العنوان: "طوق الحمامة"، بسماته الشعرية الإيحائية سالفة الذكر، من العناصر الداعمة للنزعة الأدبية في الكتاب، والمعززة لخطابه الجمالي/ البلاغي.