معارض الكتاب العربية باتت تمثل ربما آخر رمز لتداول ونشر الثقافة في زمن وعصر انحسار الثقافة، فمع مجيء وقيام ثورات الربيع العربي، التي لم تساعد على الإتيان بوعي ثقافي جديد أو ثورات لتأسيس مفاهيم لمدارس فنية وأدبية متصاحبة مع التغيرات التي هزت المجتمعات التي أسقطت أنظمتها القمعية، وأحدثت تغيرا شاملا في مجتمعاتها، انعكس على مختلف نواحي الحياة فيها، لكنها مع الأسف لم تستطع أن تأتي بوعي ثقافي انقلابي ثوري جديد يُحدث طفرات تهز جذور القديم حتى تتولد منه قيم ومبادئ لرموز تؤثث وتؤسس لثقافة تتوافق مع مستجدات التغيرات الثورية، وما تحدثه من انقلابات فكرية وروحية ونفسية لها دور حاسم ومؤكد في إحداث هزات كبيرة تنتج عنها التغيرات المهمة في تحريك الرجة المطلوبة التي تدفع إلى ظهور مفاهيم لوعي ثقافي جديد متأثر بما حصل، ومؤثر بمن سيأتي، وهو ما حدث في الدول الأوروبية بعد الحروب العظيمة التي حدثت فيها، وخصوصا الحرب العالمية الأولى والثانية اللتين أنتجتا وأسستا المدارس والمذاهب الفكرية والفنية والأدبية العالمية المهمة، التي ألهمت وأثرت وغيرت اتجاهات الحركة الفنية والأدبية في العالم كله، بما فيها الدول العربية من بعد ذلك.

Ad

لكن الذي حدث في الدول العربية هو عكس ذلك تماما، فثورتها لم ينتج عنها أي وعي ثقافي يسعى لتأسيس مفاهيم لمدارس تكرس لوعي روحي وعقلي جديد يُحدث التغيرات المطلوبة التي تواكب نتائج الثورات العظيمة التي حصلت فيها، بل بالعكس، فإن ما حدث كان انتكاسا وتأخيرا أو انقطاعا أو تدميرا لمعالم ومؤسسات كانت قائمة لخدمة وتنشيط ونشر الدور الثقافي والفني فيها، فكثير من المهرجانات الفنية والأدبية توقفت أو انقطعت، وكذلك هو حال اللقاءات والمؤتمرات والندوات الأدبية العربية المهمة انعدمت أو تأجلت إلى وقت غير محدد أو معلوم، ما أدى إلى انحسار الدور الثقافي العربي المهم، والذي كان يساعد في نشر وتبادل الثقافة العربية.

وفي ظل هذا الوضع الراهن القاتم، الذي تراجعت فيه الثقافة وتقلص دورها الريادي في المجتمعات العربية، وانحسر كل وجودها ونشاطها في المظهر الوحيد المتبقي منها، وهو معارض الكتاب.

معرض الكتاب بات الرمز الوحيد الذي مازال قائما ومستمرا إلى يومنا هذا، ليمثل لنا مصدرا لبعث الحياة في الثقافة التي باتت أطرافها تنحل وتبدأ في التآكل، وبان انحسار مدها للجميع.

معرض الكتاب، الذي بلغ عامه الـ38 في الكويت، والذي يقام في كل عام بين الفترة الممتدة من 21 إلى 30 نوفمبر، بات من أهم المعالم المفرحة التي تحرك الوضع الثقافي وتحييه، وتحدث رجة بسيطة من الإثارة والبهجة، للبحث والحصول على الكتب الصادرة الجديدة، ومتابعة نشاطات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، التي تكون مصاحبة لأيام المعرض، وتستمر حتى بعد انقضائه.

هذا المعرض ومهما قيل عنه من أقوال وآراء تدين تشدده في الرقابة، ومنعه الكثير من الكتب، ومنها على سبيل المثال روايتي «سلالم النهار»، يبقى المتنفس الثقافي الأهم في الكويت، ففي زمن الانحسار الثقافي الجاد والمتمثل في الكتاب الورقي، الذي يكافح ليتواجد في عصر انتشار ثقافة الإنترنت الاستهلاكية التي صرفت الشباب عن القراءة الجادة الحقيقية، ودفعتهم إلى صرف وهدر أثمن أوقات المعرفة والتحصيل في مسجات التويتر والانستجرام، التي تخدم وتزيد انتشار التواصل الاجتماعي، الذي ليس أكثر من نقل أخبار وصور تنقضي بانقضاء وقت بثها، ولا يمكن استعادة زمنها المهدور الذي ضاع إلى الأبد في ما لم يفد.

ومع هذا فمعرض الكتاب مازال يقاوم ويصارع ليفرض حضوره وثقافته الحقيقية الجادة، وهناك زواره من مختلف الفئات العمرية الذين ينتظرون قدومه بفرح، حتى وإن اختلفت مشاربهم وتطلعاتهم واختياراتهم من عناوين الكتب، يظل هناك من يقرأ في كتاب، ويجب أن يشجع هذا الأمر حتى وإن كان عن الطبخ أو الأبراج أو الرياضة، يبقى الأمل بأن هناك أناسا مازال يستهويها ملامسة الكتاب وقراءته.

والجميل هو هذه التحسينات التي جددت المعرض، وحدثت صالاته وحدائقه وبثت روح الجمال والنظام فيه.