أوروبا... إلى أين؟

نشر في 29-03-2012
آخر تحديث 29-03-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت في ظل تضاؤل احتمالات انتشار عدوى الديون السيادية وفشل البنوك الأوروبية إلى حد كبير بعد صفقة الديون اليونانية وبرنامج البنك المركزي الأوروبي للإقراض، فإن الوقت قد حان للتطلع إلى المستقبل. فإلى أين يسير الاتحاد الأوروبي، ومنطقة اليورو، ودول الاتحاد الأوروبي المثقلة بالديون من هنا؟ وهل تتمكن أوروبا من التغلب على أكبر تجاوزات دولة الرفاهة من دون التعرض لضائقة اقتصادية واضطرابات اجتماعية تؤدي إلى الإطاحة بالحكومات، وتقويض الاتفاقات الهشة بالفعل مع الدائنين في الدول الواقعة على أطراف أوروبا؟

الواقع أن بعض الأنباء الطيبة على الصعيد العالمي سيكون لها تأثير في كيفية حل مثل هذه المسائل، فقد بدأ الاقتصاد الأميركي باستعادة نشاطه تدريجيا، ولو ببطء وفقاً لمعايير التعافي من الركود العميق. ولم تنفصل الصين والبرازيل والهند عن عملائها في أوروبا وأميركا الشمالية، لذا فإن الاقتصاد في هذه البلدان يتباطأ، ولو أن الهبوط الآمن بات مرجحاً إذا كان الركود في أوروبا قصير الأمد ومعتدلاً كما هو متوقع.

إن الناتج الاقتصادي وعدد السكان في الاتحاد الأوروبي أضخم من نظيريهما في الولايات المتحدة، لذا فإن مصير دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين أصبح شأناً يهم الجميع، من نيويورك إلى نيودلهي، ومن ساو باولو إلى شنغهاي. تتألف منطقة اليورو التي تأسست في الأصل باعتبارها منطقة تجارة حرة من سبع عشرة من بلدان الاتحاد الأوروبي. والواقع أن الربط بين سبعة عشر من الاقتصادات والثقافات والمؤسسات المتباينة كان بمنزلة تعهد بالغ الضخامة ومحفوف بالمخاطر.

تؤكد معاهدة لشبونة الإجماع في اتخاذ القرارات، وفي ظل وجود بعض الأعضاء داخل منطقة اليورو، وبعضهم الآخر خارجها، ومع تباين المصالح الاقتصادية والتقاليد النقدية والمالية حتى داخل منطقة اليورو، فإن التوصل إلى اتفاق أمر صعب. وهذا من شأنه أن يمهد الطريق أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسة، وكل منها ينطوي على عواقب بالنسبة إلى الاقتصاد الأوروبي والعالم، والنظام المالي والمصرفي، والعلاقات بين الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي.

في السيناريو الأول، تخرج أوروبا من الأزمة أكثر وحدة وتجانسا، فتفرض قدراً أعظم من القيود على موازنات البلدان الأعضاء من أجل الحد من المخاطر الواضحة. وفي وجود منطقة يورو قوية وضخمة، فإن خطر اندلاع أزمة عملة في المستقبل يظل قائما.

وفي السيناريو الثاني، فإن أوروبا الثنائية أو الثلاثية الطبقات تضم اليورو الذي يتألف من طبقتين، حيث تستخدم البلدان الأضعف "اليورو ب" المنفصل، والذي يمكن تعويمه في مقابل "اليورو أ" الذي تستخدمه الاقتصادات الأقوى. وهذا الترتيب يحمل وعداً للاقتصادات المتعثرة ماليا، إذا تمكنت من تسوية أمورها على النحو اللائق، بالعودة إلى الانضمام إلى "اليورو أ".

وفي السيناريو الأخير، تنشأ أوروبا الأكثر بُعداً عن المركزية، وفي ظل قدر أقل من الاتفاق من الأعلى إلى الأسفل في مجالات بعيدة عن التجارة وفي منطقة يورو أصغر حجماً وأكثر تجانساً تتألف من اقتصادات القلب في الاتحاد الأوروبي. والواقع أن هذا التصور سوف يحظى بقدر أعظم كثيراً من الشعبية بين المواطنين غير الراضين عن تعاظم سلطة الاتحاد الأوروبي في بروكسل وخسارة السيادة التقليدية. وسوف تعود بعض بلدان اليورو الحالية- اليونان (وربما بلدان أخرى)- إلى عملاتها الوطنية.

وكل هذه الخيارات ليست سهلة على الإطلاق؛ فكل منها ينطوي على مصاعب شديدة ومخاطر عظيمة. وقد يكون التخبط الهائل أفضل ما يسعنا أن نرجوه الآن.

على سبيل المثال، كيف قد يتسنى لليونان (أو أي دولة) أن تخرج من اليورو من أجل تخفيف الخفض الهائل للأجور اللازم لاستعادة القدرة التنافسية، وتجنب الاضطرابات الاجتماعية الشديدة التي قد تنجم عن كبح جماح الديون بسرعة أكبر مما ينبغي؟ فبمجرد ذيوع النبأ بأن اليونان تفكر جدياً في مثل هذا التحرك- وقبل حتى أن تتمكن من إصدار عملة الدراخما الجديدة- فإن الودائع المصرفية بعملة اليورو سوف تهرب من اليونان.

ونتيجة لهذا فإن اليونان سوف تضطر إلى فرض الضوابط على رأس المال، وبعض العقود المقومة باليورو سوف تخضع للقانون اليوناني، وبعضها للقانون الأوروبي، وغيرها- على سبيل المثال عقود المشتقات المالية- للقانون الإنكليزي والأميركي. وسوف تنشأ حالة من الفوضى القانونية. بيد أن التمسك باليورو وفرض كل التعديلات على الأجور يهدد بقدر أعظم من الاضطرابات؛ وقد لا يؤدي هذا إلا إلى تأجيل ما لا مفر منه.

ومن المؤكد أن الحكومات وسوق السندات سوف تختبر جدية التوجيهات المالية المتفق عليها حديثا (إذا تم التصديق عليها). وفي حين يتسم الحديث الآن بالشدة، فإن تاريخ مثل هذه الاتفاقات لا يبعث على التفاؤل. فقبل اندلاع الأزمة المالية، كانت حتى ألمانيا تنتهك حدود العجز التي أقرها ميثاق النمو والاستقرار للاتحاد الأوروبي.

وفي الولايات المتحدة لم يتم الالتزام بحدود العجز التي فرضها قانون غرام- رودمان- هولينغز، وكما حدث مع ميثاق النمو والاستقرار تم تعديل هذا القانون وتمديد نطاقه. وتوافر الاتفاقات الخاصة بالحصول على التمويل من صندوق النقد الدولي والصندوق الأوروبي الجديد للإنقاذ قيوداً (ناعمة).

وبصرف النظر عن كيفية حل هذه القضايا المالية والمتعلقة بالإدارة، فإن البنوك الأوروبية تظل تشكل قضية شائكة، ففي ظل الوقت الذي تتيحه قروض البنك المركزي الأوروبي الرخيصة التي تمتد لثلاثة أعوام، تتمتع البنوك الأوروبية بقدر من الحرية على نحو يسمح لها بإعادة بناء رؤوس أموالها وتطهير موازناتها. ولكن بينما تفعل هذا فمن غير المرجح أن تتوسع في تقديم القروض للقطاع الخاص لدعم النمو الاقتصادي. فالبنوك الأوروبية أقل تمويلا، وهي تمثل حصة أضخم كثيراً من الائتمان الممنوح، مقارنة ببنوك الولايات المتحدة، حيث ينشأ كم أعظم من الإقراض في أسواق رأس المال.

وأخيرا، نجحت أغلب بنوك الولايات المتحدة الكبرى- باستثناء سيتي بانك- في اجتياز اختبارات الإجهاد التي فرضها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وبقدر كاف من رأس المال لتحمل الركود العميق المفترض (معدل بطالة 13%، وهبوط أسعار الإسكان بنسبة إضافية تبلغ 21%، وانحدار أسواق الأسهم بنسبة 50%). وكانت اختبارات الإجهاد في أوروبا أضعف كثيرا. وسوف يتطلب الأمر بالضرورة فرض نظام أشبه بسندات برادي للحد من وتمديد الديون السيادية المفرطة.

وبوسعنا أن نتوقع المزيد من الارتباك في أوروبا- من قِبَل البنوك، والديون السيادية، والاضطرابات الاجتماعية في استجابة حتى لخفض أكثر تواضعاً لدولة الرفاهة- والرؤى المتضاربة دخل كل دولة وبين الدول المختلة، فيما يتصل بالرغبة في تعميق التكامل الأوروبي. لقد قطعت أوروبا شوطاً طويلاً منذ الأيام التي تنبأ فيها زعماؤها بأن اليورو سوف يتمكن بسرعة من منافسة الدولار باعتباره عملة احتياطية عالمية.

ولكن على الرغم من هذا، لا ينبغي لأحد أن يستبعد أوروبا من حساباته، فهي لا تزال تتمتع بمواطن قوة عظيمة، وبالاستعانة بإصلاحات معقولة فإن الاتحاد الأوروبي قادر على البقاء وفي النهاية العودة إلى قدر أعظم من الازدهار والاستقرار، ولكن أوروبا لا تزال أقرب إلى بداية عملية التجديد هذه من نهايتها.

* مايكل ج. بوسكين | Michael J. Boskin ، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، وكبير زملاء معهد هووفر، وكان رئيساً لمجلس مستشاري الرئيس جورج بوش الأب للشؤون الاقتصادية أثناء الفترة 1989-1993.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top