الثابت أن في السياسة لا شيء مستقراً، فهي تتحرك بحسب المصالح الموجودة على أرض الواقع، وهي وحدها التي تتحكم في بوصلتها وتدير دفتها، وقد يتحول أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم، وأعداء الأمس إلى حلفاء اليوم بلمحة بصر، خصوصاً في العالم الثالث، وفي العراق الجديد بالذات.

Ad

فلا الاتفاقات الاستراتيجية تنفع مع المغريات المالية، ولا مواثيق الشرف تصمد أمام المصالح والمكاسب السياسية، وقد رأينا حالات كثيرة ينسلخ فيها السياسي عن مواقفه السابقة ويغير من مبادئه الراسخة، بمجرد أن يُعطى له دور في السياسة العامة للبلاد.

لم يكن أحد من الأحزاب الكردية يكره الآخر ويضمر له الشر مثلما كان يفعله الحزبان الحاكمان "الديمقراطي" و"الاتحاد الوطني" الكردستانيان، فقد دخلا في منازعات وصراعات طويلة في معظم مراحل تاريخهما النضالي وجرت بينهما أنهار من الدماء، لكنهما ما إن وضعا أيديهما على السلطة واقتسما المصالح بينهما، نسيا كل شيء، وعقدا اتفاقاً استراتيجياً وأصبح ما بينهما "سمناً على عسل".

وكذلك الأمر بالنسبة للتيار الصدري و"المالكي"، فقد دخلا في حرب ضروس دامية سميت بـ"صولة الفرسان"، لكن عندما حان وقت اقتسام الغنيمة أصبحا أصدقاء أحباء ضمن تحالف واحد وكتلة واحدة "التحالف الوطني"، فلولا مساندة زعيم التيار "مقتدى الصدر" لـ"المالكي" في الانتخابات الأخيرة عام 2010، لما وصل إلى سدة الحكم.

منذ أكثر من شهرين يعيش العراقيون حالة رعب واستنفار عام، بسبب إصرار الجبهة المعارضة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على سحب الثقة منه، دون أن تحرك ساكناً، أو تغير من الواقع شيئاً، كل ما تفعله صراخ وإدانة وتصريحات في وسائل الإعلام واجتماعات تعقد هنا وهناك، ثم تنتهي ببيان ختامي مهزوز لا يهش ولا ينش.

دخلت البلاد في دوامة سياسية لمدة شهرين من دون نتيجة، اجتمع المعارضون على نقاط مشتركة، واتفقوا على أهم نقطة فيها، وهي سحب الثقة من المالكي وأقسموا بأغلظ الأيمان على أن يبقوا على مستوى المسؤولية الوطنية، صامدين وموحدين على موقف واحد لا يحيدون عنه مهما كانت المغريات والتهديدات، لكنهم سرعان ما تهاووا أمام موقف المالكي الصلب وألاعيبه السياسية لتشتيت جمعهم.

وقد نجح المالكي واستطاع أن يغير من قناعات الكثيرين من قادتهم، وعلى رأسهم الرئيس جلال طالباني، وكذلك العديد من نواب المعارضة، وبعد أن كان مطلبهم الأساسي سحب الثقة أصبح هدفهم "الاستجواب" في البرلمان، وقد شكلوا لجاناً لذلك وأعدوا أسئلة وحددوا من يسأل ويستجوب، وعلى ضوء قناعات النواب يتم رفع اليد إما بلا وإما بنعم في مسألة سحب الثقة.

ويبدو أن خيار الاستجواب أيضاً بدأ يضمحل ويتضاءل لمصلحة خيار إجراء "الإصلاحات" الذي اقترحه المالكي على الكتل المعارضة!

يبدو أن المالكي سيخرج من هذا الصراع أقوى من الأول وأكثر شراسة ضد خصومه السياسيين، وسيعمل على إضعافهم وتهميش دورهم في المعادلة العراقية، وسيحاول منذ الآن التحضير لولاية ثالثة، ويبدو أنه سيفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة إن استمرت الأمور تجري لمصلحته كما الآن... لننتظر ونرى!

*كاتب عراقي