أول ما يلفت النظر في تجربة فيلم «حلم عزيز»، الذي يُعرض الآن في صالات العرض المصرية، هو الإهداء الذي قدمه «إلى طلعت زين أخف دم وأعز صديق»، في لفتة إنسانية ستُحسب لمخرجه عمرو عرفة تجاه مُبدع غيبه الموت بعد صراع شرس مع مرض عضال، وكان لها إسهامها «العاطفي» في التجاوب مع الفيلم، الذي مثل مفاجأة بالمقاييس كافة.

Ad

يحتمل عنوان «حلم عزيز» معنيين؛ أولهما الحلم الذي يطارد البطل «عزيز»، والثاني أنه فعلاً حلم «عزيز» و{نادر»، في إثارته ومضمونه؛ حيث يفاجأ «عزيز» رجل الأعمال الماجن الطائش الذي وصل إلى مكانته الرفيعة في المجتمع بالانتهازية، وضرب عرض الحائط بالقيم الأخلاقية، بأن والده الذي غادر الحياة يزوره في الحلم، ويُطالبه بأن يعود إلى صوابه، ويُكفر عن خطاياه وآثامه، قبل لحظة الحساب التي ستكون قاسية للغاية. للوهلة الأولى، يُخيل للرجل أنها «دعابة»، لكن الحلم يتكرر بعد إضافة تفاصيل أكثر، وبالتدقيق في مفرداته، ومحاولة تفسير إشاراته، يكتشف «عزيز» أنه على بعد خطوات من الموت، وأن عليه تنفيذ وصية والده. ويبدأ فعلاً في مراجعة أوراقه، ويُعيد حساباته القديمة، ويستعيد «أجندة» منافسي الماضي وخصوم الأمس، الذين أهدر دماءهم وتسلق على أكتافهم، ووصل إلى ما وصل إليه على جثثهم.

فكرة مثيرة نجح الكاتب نادر صلاح الدين في إبداعها، ويُقدر للشركة المنتجة، التي تملكها الفنانة إسعاد يونس، أن تحمست لها، ووفرت لها الإمكانات كافة بما جعل من الفيلم «قطعة فنية» بمعنى الكلمة؛ فالنسخ وصلت إلى سبعين، والمخرج سافر على نفقة الشركة المنتجة للإشراف على طباعة النسخ، وتحميضها في لندن،  كذلك أعمال الغرافيك التي تم تنفيذها بدرجة عالية من الاتقان، وأضفت على الفيلم جاذبية وإبهاراً لا يمكن إنكارهما بالنظر إلى الاهتمام القديم من السينما المصرية بالمضمون على حساب الشكل والإبهار.

حشد المخرج عمرو عرفة بدوره أسلحته الفنية كافة وأدواته لتوصيل رسالة الفيلم، ولم يلجأ مطلقاً إلى الخطابة والمباشرة والعظة الممجوجة، بل وظف الكتابة الساخرة للسيناريست في صنع فيلم خفيف الظل، مع أهمية مضمونه؛ فالبطل «عزيز» يتصور أنه قادر على التحايل والمناورة، ويراوغ في تنفيذ «الوصية» ظناً منه أنه سيفلت من العقاب السماوي، وفي سبيل ذلك ينفق الأموال على ضحاياه طلباً للسماح والغفران، لكن النية تبدو غير خالصة لوجه الله، وهو ما يفطن إليه مع دنو الأجل، فيبدأ في تصحيح المسار، ويقترب من الناس الذين استكبر وتعالى عليهم طويلاً، ويكتشف أن دعواتهم الصادرة من القلب أهم بكثير من شراء الذمم، والحصول على العفو والمغفرة بالأموال الوفيرة.

في ذلك المشهد الإنساني اللافت، الذي تطفر فيه الدموع من «عزيز»، وهو يقف في شرفة الفيلا مع عائلته، وهو يرى ويسمع أصوات ضحاياه، وهم يصرخون بالدعاء الصادق النابع من القلب مبتهلين إلى الله بأن يُتمم عليه نعمة الشفاء، يبلغ فيلم «حلم عزيز» أعلى درجات الرقي الإنساني والصدق الفني، وأغلب الظن أنه كان ينبغي أن ينتهي عقب هذا المشهد، الذي يُصطلح على تسميته أكاديمياً «نقطة الذروة» فما جاء بعده من أحداث مجرد «حشو» أو «زيادة عن الحاجة»، ويُعيد الأمور بلا مبرر إلى نقطة الصفر؛ فالقول بأن «الحلم» أسيء تفسيره، وإن «عزيز» أمامه في الحياة ثلاثين سنة وليس ثلاثين شهراً لا يحمل «النهاية السعيدة»، التي تصورها أصحاب الفيلم، بل مثل «انتكاسة درامية صادمة» لم نكن في حاجة إليها، كونها تسببت في إفساد وجبة فنية شهية تم إعدادها على نار هادئة!

مع السياق الدرامي الأخاذ والإيقاع المثير اللاهث (مونتاج معتز الكاتب)، يبسط عرفة سيطرته على الصورة (وائل درويش)، ويبرع في توصيل جرعة الخيال بديكور (محمد أمين) نجح في توظيفه بدرجة كبيرة؛ فمنذ اللحظة الأولى لا يغيب عن فطنة ووعي المتابع لأحداث الفيلم المغزى وراء لقطة القصر، الذي يعيش فيه «عزيز» مع زوجته وطفله، وهو معلق في الهواء، ومجرد كتلة في الفراغ، في إشارة إلى عزلة «عزيز»، ونرجسيته الواضحة، التي تتأكد من خلال مواقفه، وأفكاره، وإيمانه المطلق بأن قوة السلطة والمال كافية لتذليل الصعاب، وإزالة أي معوقات؛ خصوصاً البشر الذين لا يُلقي لهم بالاً ولا اعتباراً. ومع المقدرة الواضحة في توظيف العناصر الفنية، يقدم المخرج عمرو عرفة ممثليه في أفضل حالاتهم، الأمر الذي يؤكد أن الممثل في حاجة إلى من يقوده ويضبط انفعالاته ويوجه موهبته؛ فمن يقول إن أحمد عز صاحب الأداء التلقائي والسلس، وهو يجسد شخصية «عزيز»، هو نفسه الذي تابعناه مبتدئاً وهاوياً، في شخصية تاجر المخدرات في فيلم «المصلحة»؟ ومن يختلف معنا أن المخرج قدم للساحة الفنية وجهين جديدين سيكون لهما شأن كبير في المرحلة المقبلة هما: «ميريت» التي قامت بدور زوجة «عزيز»، و{رانيا منصور» التي جسدت دور شقيقته؟

أما جرأة الكاتب نادر صلاح الدين في اقترابه من قضية الثواب والعقاب، والجنة والنار، وهي المنطقة المحظورة، التي تسعى السينما المصرية إلى الابتعاد عن التوغل فيها، بوصفها «حقل ألغام»، فيستحق الحديث في مناسبة أخرى... وتكفيه الإشادة موقتاً!