مشهد جون ويلتش (مواليد 1942)، وهو يغذ السير دائماً في شوارع لندن، بحقيبة كالزوادة معلقة وراء ظهره، لهو مشهد شاعر جوال. أشيب، منحن قليلاً، خال من الفضول، ومن الحديث عن النفس. إنه صديق مقرب وشاعر أجد في قصائده ملاذاً، ومحفزاً للتساؤل. قبل فترة أرسل لي مجموعته الشعرية الجديدة The Halting Measure، مع صورة فوتوغرافية لحفيدته الجديدة. وهو حريص أن يكون بالغ الانطواء مع الأولى، وبالغ الانبساط مع الثانية. قصيدته ليست مغلقة، ولكنها تثير التباساً لأنه جاد في توليد قرابة بين مدركاته الحسية لما هو يومي وبين اللغة الشعرية.

Ad

يقول عنه أحد النقاد: «إنه يكتب كما لو أن الشعر مسألة حياة أو موت، قصائد غنائية تلاحق الواحدة الأخرى مثل أمواج باردة على ساحل خريفي. ما من مؤثرات متباهية، ولا خبط عشواء، ولا شيء احتياليا أو مبتذلا».

الالتباس ظاهر في تأمل العلاقة بين الذات والآخر، الخاص والعام، والحضور والغياب: «أن تكون هنا ولا تكون» في آن. والغياب أو الفقدان قرين الصمت، كلاهما يحتلان موقع «الوجود» الإنساني، مع أن المدركات الحسية ليست وهماً في قصائده: «هكذا نحن نمضي مُعرّفين بغيابنا».

«يقف وعلى قدم واحدة يستدير/ كما يسقط ضوء داخل الصمت».

يلاحظ ناقد آخر أن الحلم يحتل موقعاً مغذياً في الكثير من قصائد ويلتش، «فهو دائم التأمل في العلاقة بين الحلم، الذاكرة، الرغبة والشعر»، وبالرغم من أن أب الشاعر وجده كلاهما قساوسة كنيسة، إلا أن ويلتش يخلو من هذا الهاجس. فهو شاعر مدينة، ومدينة لندن بالذات، وشاعر المشهد الملموس الذي يبدو على تماس دائم بغير الملموس.

سعيت جاهداً، رغم الصعوبة، إلى ترجمة واحدة من قصائده بعنوان «لاجئ»:

إنهم سيقبلون، من هناك إلى هنا.

لا ليست حجاً، هذه المسافة بين أنت وأنا.

قافلة لا طواعية فيها،

ساعية أبداً إلى اختيار سماء مختلفة

«أنا» تريد أن تعرف «أنت» من أين،

تريد معرفة حكايتك

ولكنك كنت منطوياً بالغ الاحتراس

داخل صمتك أنت...

مرة كنت تؤدي رقصة الظلال

حائماً حول دار القضاء

منتظراً إصدار حكم،

منتظراً شيئاً ما «سيصدر» من علٍ،

إرثاً غامضاً.

في قصيدة «حمولة طافية» تبدأ القصيدة بهذا القرار:

السير باطراد على حافة المياه

كهذا السير

يوفر سلاماً مؤكداً.

إلا أن مشهد الحمولة الطافية في الماء، والذي يترافق مع مشهد الرجل المسن، (الذي تتجاور رائحة المسك فيه مع الحلاوة) ينتهي بهذا القرار: «الناس الذين تمر بهم هم على غير يقين/ من الترحاب بك»، وينصرف إلى الطبيعة حيث الأشجار: «... لها ملامح اللون الرماد/ دراما غصن مضطرب مضاء بالشمس/ في وجه تهديد السماء المعتم».

 وتنتهي القصيدة مع المشهد الأول، الذي يدخل الصمت: «أنت تستدير إلى جانب الماء ذاك/ حيث حمولته الطافية من الأزهار/ قرابة أن تبدو ساكنة سكون نص مكتوب».

جون ويلتش تقاعد منذ سنوات عن تدريس الانكليزية كلغة ثانية للأجانب. رحب في التعاون على ترجمة الشعر الشرقي، والهندي بشكل خاص، وله مختارات من هذا الشعر صدرت عن «أوكسفورد». مجموعاته الشعرية كثيرة بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي. من مجموعاته الشعرية: «للخروج مشياً»، «دم وحلم»، «تلألؤها»، «زيارة المنفى»... والعناوين التي تستعصي على الترجمة أحيانا كثيرة تعكس طبيعة لغته الشعرية ذات الحساسية المرهفة التي لا تستعصي على إدراك القارئ، بل على اللغة الأخرى.