يقف هذا الرجل بكل صغار واعتذار أمام ما اقترفه بحق الناس الذين قبلوا أن يتحكم في مصير بلدهم. كانوا جميعاً أفضل منه. "تعرفون ليش؟" لأنهم آمنوا بالحرية والنظام وقبلوا شكل الدولة التي تسلَّط عليها هذا "الشخص" ومارس هواياته ونفذ ما كان يحلم به، بينما هم يقولون الرئيس "أبخص". التاريخ لن يرحمه وأفعاله خصوصاً الأخيرة التي "اقترفها" في نهاية حياته السياسية، قتلت دولته وعذبت شعبه وجعلته يعاني لسنوات الله أعلم إلى أين ستهوي بهم!
ولد جيسكار ديستان لعائلة أمراء، فأبوه "كونت" وأمه أميرة، وعاش متنعماً في قصور أسلافه وعقارات أجداده. وكان دخوله إلى السياسة ترفاً لتحقيق ذاته ولزيادة نفوذ مَن يمثلهم من تجار وشيوخ فرنسا. شخصيته العنيدة التي فيها شيء من التعالي قادته إلى التصادم مع خصومه، وأحياناً كثيرة مع ربعه. لم يكن "يرد على أحد" لدرجة أنه وحده عارض الاستبيان الذي تبناه ديغول وبقية أعضاء الحزب بسبب قناعته وتشدده.ترقي ديستان في المناصب السياسية حتى وصل في منتصف السبعينيات إلى الإليزيه رئيساً، استخدم دور الرئيس لتنفيذ أجندة كانت جميلة وظاهرها الرحمة، وكانت اهتماماته تنصبّ على الأسرة ورعايتها ومعها مشاريع الرعاية الاجتماعية. التنفيذ كان كارثياً بالرغم النوايا الحسنة. كانت فترة السنوات السبع طويلة على الفرنسيين فـ"خلعوه" وأتوا بغيره. أرادت الأحزاب والنخب الفرنسية حفظ كرامة ديستان وانتُخِب لرئاسة هيئة عليا برلمانية عندهم ليس لها دور محدد ولا صلاحيات ثابتة، تذكرني بجهاز الأمن الوطني عندنا... والمختار. وبينما كان ديستان يزحف نحو السبعين واجهت أوروبا مشروع "اليورو" وفكرة توحد دولها على عملة واحدة. فرنسا لجأت "لسوء حظها" إلى هذا العجوز لتسويق الفكرة، وعُمِل استبيان للوقوف على مدى قبول الشعب لفكرة الانضمام إلى "اليورو" الذي حذر منه علماء الاقتصاد والتنمية والتاريخ... وحتى علماء الآثار. وجاءت نتيجة الاستبيان برفض الفرنسيين للفكرة. لم يعجب مسيو ديستان ذلك، وقال جملة الغرور والتكبر: "إذا كان 55% من الفرنسيين قد رفضوا المشروع ففرنسا اليوم تريده". يقول المتابعون لهذه القضية إن عناد رجل ألقى بمستقبل أمته في المجهول. بالرغم من ديمقراطية فرنسا العتيدة فقد تجاهلها جيسكار واجتهد برأيه غير الصائب وانتصر تاريخ أسرته وعلاقاته الاقتصادية على رأي الشعب وانتفاضتهم وخروجهم إلى الشارع وأخيراً صوتهم الحر.يا جيسكار... الناس تقبل أن يعاند الإنسان ظروفه ويتحدى مخاوفه، فها هو الطالب والمخترع والعالم والموظف يجاهد كل منهم للوصول إلى هدفه الخاص الذي لا يشاركه فيه سواه، فنجاحه له وعاقبة فشله عليه. لكن القائد الذي يعاند شعبه يوصف بالدكتاتور ويتصرف كالفرعون. وبالأخير يغامر بمستقبل أمته وينهي أحلام شعبه. التاريخ يا جيسكار لا يكذب، والتفرد والعناد إن كان قد خدماك لفترة وجيزة لا تتجاوز سنوات رئاستك، فإن آلامهما والمعاناة جراءهما ستظل عقوداً من الزمن على مَن يتبعك.
مقالات
العناد عند الكبار
14-07-2012