وجهة نظر: «إن خير من استأجرت القوي الأمين»
يشكل الإنفاق الجاري الذي يتضمن الإنفاق على الرواتب والأجور ومستحقات الرعاية الاجتماعية وبنود دعم أسعار المنافع والسلع والخدمات نحو 90 في المئة من إجمالي الإنفاق العام في الكويت (88% متوسط السنوات من 2003 حتى 2010)، وهذه حصة قياسية بالمقارنة مع البلدان الأخرى، حيث شكلت النسبة المقارنة في السعودية 78% وفي دولة الإمارات 75% وفي قطر 72% وفي عمان 67%.وتكمن المفارقة الأشد من ذلك في حصة مخصصات الدعم ومستحقات الرعاية الاجتماعية، حيث تصل في الكويت إلى 35% من الإنفاق العام، بينما لا تتجاوز الحصة المقابلة لها 17% في دولة الإمارات و14% في قطر و9% في عمان و4% في السعودية. وبتعبير آخر تشير هذه الفروقات الواسعة في حصص الإنفاق العام إلى أن الكويت تنفق على أبواب الدعم الاجتماعي من دخلها الريعي الأصل أي الآيل إلى النضوب حصة تزيد على ضعفي ما تنفقه كل من الإمارات وقطر، وتصل إلى نحو أربعة أضعاف ما تنفقه عمان، ونحو 9 أضعاف ما تنفقه السعودية.
ولا شك في أن أكثر من ستة عقود من ريع النفط في الكويت اتسمت، إن بدرجة أو بأخرى، بمثل هذا النمط من توزيع النفقات العامة، كانت كفيلة بخلق ثقافة مجتمعية قوامها الاعتماد المفرط على الدولة الراعية المسؤولة عن توفير مختلف الاحتياجات المعيشية للمواطن دون مطالبته بواجبات محددة مقابل ذلك، بل واحتوت رواتب ومزايا موظفي الدولة في العقود الأخيرة، مع تفشي ظاهرة البطالة المقنعة على حصص كبيرة ومتزايدة من الدعم الذي لا يقابله إنتاج حقيقي.في ظل ثقافة كهذه، تصبح عملية الإصلاح الاقتصادي حلماً يصعب مناله، فالحديث عن تصحيح الخلل في أسعار السلع والخدمات العامة ينظر إليه بوصفه انتقاصاً من «حقوق واستحقاقات المواطنة»، ودع عنك طبعاً مجرد التفكير في فرض ضرائب، وإن يسيرة على الدخل. وفي نفس السياق ينظر كثيرون إلى عملية نقل خدمات القطاع العام إلى القطاع الخاص وكأنها تخلٍّ من جانب الدولة عن مسؤولياتها وواجباتها تجاه الوطن والمواطن لمصلحة حفنة من الجشعين من أصحاب رؤوس الأموال. ثقافة كهذه لا يهمها، بل لا ترى أن ضعف كفاءة وفعالية القطاع العام في الإنتاج تتسبب في هدر كبير للموارد، وفي تردي مستوى خدمات الإدارة العامة والتعليم العام والصحة العامة وشبكة الطرق، وغير ذلك من خدمات تتولاها الدولة، كما أنها لا يهمها أو لا تدرك أن الخلل في أسعار السلع والخدمات العامة يتسبب في معدلات هائلة من الطلب غير الضروري على هذه السلع والخدمات مما ينتج عنه إسراف قياسي يلمسه كل ذي بصر أو بصيرة.ومتخذ القرار، أياً كان، لا يمكن له أن يتصدى لمهمة الإصلاح الاقتصادي إذا لم تتوفر لديه القناعة التامة بالآثار السلبية والخطيرة المترتبة على هذه الثقافة السائدة، وإذا لم تتوفر لديه القدرة على مواجهة السواد الأعظم من دعاتها والمروجين لها، وإذا لم يكن لديه الغطاء السياسي القوي الذي يضمن له الدعم في مهمته. وإذا كان الإصلاح هدفاً ثميناً تسعى الدولة إلى الوصول إليه كما تنص أدبيات وثائقها وخططها، فإن اختيار القوي الأمين لمهمة كهذه وتوفير غطاء سياسي ثابت له في كل موقع من المواقع التي ترتكز عليها عملية الإصلاح الاقتصادي هو أمر لا يحتمل التأخير أو النكوص.* أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت