يعاني مجتمعنا انقساماً حاداً واستقطاباً طائفياً لا يمكن للعاقل تجاهله، تتفاوت نسبته حسب الحاجة والمزاج العام، مع وجود أرضية خصبة تصلح لزراعة كميات هائلة من محاصيل التفرقة قد تمنحنا اكتفاء ذاتياً لسنوات قادمة، كما يمكن تعليبها ووضع ملصق يكتب عليه "فخر الصناعة غير الوطنية" وتصديرها إلى نصف الطائفيين والعنصريين والإقصائيين في العالم، وبذلك ندخل خانة الدول المصدرة!

Ad

ومن الواضح أنه لم يعد بالإمكان تسويق مفهوم "الوحدة الوطنية" الفضفاض في مجتمعنا المهاجر، حيث أصبح مصطلحا "موسميا" لا يبرز إلا في الأعياد الوطنية والأوبريتات الغنائية وبعض الموائد الانتخابية، ويتلاشى مع رحيل الضيوف وتفرقهم، بل يكاد ينعدم بسبب الانقياد العاطفي الذي يتلبس مكونات المجتمع عند أبسط اختبار عملي حقيقي؛ لذلك قد يكون من الأفضل العمل على استبداله بمصطلح آخر كـ"التعايش السلمي"، حيث تبتعد العاطفة وتعمل الدولة على إعادة ثقة المواطن بمؤسساتها من خلال القيام بواجباتها وتطبيق القانون على الجميع بلا استثناء، وتفعيل مواد الدستور بدون تمييز عرقي أو ديني أو مناطقي.

من هنا، وتفعيلا للمادة 35 من الدستور "حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان طبقاً للعادات المرعية على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب"، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع فكرة قيام مسيرة أربعينية استشهاد الإمام الحسين-عليه السلام- ولست هنا مدافعاً عن مقدمي الطلب، بل قد أختلف معهم في التفاصيل، إلا أنه ليس من حق أحد الحكم على النوايا أو الحجر على حق أي مواطن في اتخاذ المسلك الدستوري والقانوني وتقديم طلب الترخيص، كما أنه ليس من المنطق أن يأتي من خرج بالأمس في مسيرات "غير مرخصة" ليعارض اليوم مسيرة الأربعين بحجة "عدم قانونيتها"!

فالقانون وحده الذي يحدد ذلك لا مزاجيات البعض، وعلى وزارة الداخلية ترخيص "أي" مسيرة تتوافر فيها الشروط، دون التعامل بانتقائية. أما من يروج بأن المسيرة ستساهم في رفع حدة الاحتقان الطائفي، فليراجع نفسه، لأن الطائفيين هنا وهناك ليسوا بانتظار مسيرة ليمارسوا هواية "التفتيت"، وليتيقن كذلك بأن "الحسين" ليس حكراً على مذهب أو دين، فمن يفرقهم سيد الشهداء لن يتمكن أحد من تجميعهم، لأن العلة قابعة في النفوس.

وللعلم، فمثل هذه المسيرات تقام في معظم ديمقراطيات العالم التي يتشدق بها الكثير ويتخذونها مثالا ويدعون إلى الاقتداء بها!

ختاما، يبدو أن الترخيص للمسيرة سيعطي مادة دسمة "للبعض" في المعارضة السابقة خارج البرلمان، أما عدم الترخيص، فسيخلق معارضة جديدة داخله، وتبقى الكرة في ملعب الحكومة.