أعتقد أن ما كتب هذه الأيام عن مشروع "كي - داو"، يتجاوز بكثير ما كتب عن هذا المشروع يوم طرح وتم توقيعه، ومن ثم قام رئيس الحكومة السابقة بإلغائه تحت وطأة الضغط النيابي قبل سنوات قليلة، مما انتهى إلى تغريم الكويت أكثر من ملياري دولار أخيراً. ولا مشكلة أبداً في هذا، إن كان المكتوب والمطروح يدخل في دائرة الموضوعية والمعرفة والتخصصية القابلة للنقاش والأخذ والرد، والبعيدة عن دائرة الشخصانية والإقصاء والتخوين. لكن المشكلة حقاً إن أتى هذا المكتوب والمطروح في سياق التصارع السياسي المعهود، ورغبة من الأطراف بكيل الصفعات وتسجيل النقاط بعضها على بعض.

Ad

لا فائدة اليوم من التحسر على ضياع مشروع "كي- داو"، ولا فائدة أيضاً من التفجع على مبلغ الغرامة الضخم الذي ستدفعه الكويت بسبب إلغاء العقد، فكل هذا لن يغير من الواقع شيئاً. كما أن من تضييع الوقت والجهد أن نبحث عن طرف أو أكثر، لتحميله مسؤولية الواقعة، فلا جدوى من ذلك على الأرض، لأن نحر أكباش الفداء لن يعيد ساعة الزمن إلى الوراء، ولن يغير من الأمر شيئاً. أقول ذلك، مع قناعتي بأن النواب الذين عارضوا مشروع "كي- داو" وأوقفوه على أي حال، حتى وإن كنت أراهم قد أخطأوا في ما قاموا به، لم يفعلوا ذلك إلا من خلال ما هو متاح لهم من أدوات برلمانية، وما هو مألوف من ممارسات سياسية أضحت مقبولة وللأسف، ليذعن لهم، في المقابل، رئيس الحكومة السابقة بتلك الطريقة الهزيلة المنكسرة بلا مقاومة.

ما أتمناه الآن حقاً هو أن تخرج الكويت من هذه التجربة وقد تعلمت درسها، وأهم درس هو ضرورة لجم القرار السياسي ومنعه من اختطاف وتحجيم وإخراس الرأي الفني. من الواجب على حكومة الشيخ جابر المبارك، إن هو أراد أن يقدم أداءً مختلفاً حقاً عن أداء من سبقه، إيجاد الآليات الكفيلة بضمان استقلالية وعلو كتف الرأي الفني المتخصص، وذلك في كل المجالات، حتى يمكن لمشاريع التنمية والتطوير والإصلاح أن تتحرك وتمضي قدماً. من الضروري أن يجد الرأي الفني الدعم والحماية من السلطة التنفيذية. ولست أقول هنا ألا يسمح لأحد بنقد الرأي الفني أو الاعتراض عليه مطلقاً، وإنما أن يكون ذلك من خلال مواجهة الرأي الفني المتخصص بالرأي الفني المتخصص، وألا يترك الأمر نهباً للصراعات والضغوطات السياسية.

وبالطبع، فإن من الضروري في الوقت نفسه أن تمر كل الآراء الفنية الرسمية في القنوات القانونية الرقابية الصحيحة، لضمان صحتها وسلامتها وشفافيتها، لتكون محصنة تلقائياً ضد التشكيك والتخوين.

وأختم قائلاً إن هذه الغرامة التي ستدفعها الكويت، والتي آمل أن تصل الجهات المسؤولة إلى وسيلة تفاوضية ما لتقليصها، وإن كانت درساً شديد القسوة وباهظ الثمن ولا شك، فإنه سيكون عظيم الفائدة لو كان ذلك ما كنا بحاجة إليه لتعود أمورنا إلى المسار الصواب، ولتعود الكويت إلى الحياة، فتتحرك مشاريعها التنموية والإصلاحية من جديد، وهي التي خنقها الصراع السياسي طوال السنوات الماضية.