كثير من الذين أعرفهم يشتكون من أنهم لم يعيشوا لحظات حياتهم، وأن أجمل سنوات العمر قد ضاعت منهم وهم يهرولون للحاق بالطموح الواسع والنوء بحمولة تربية أبنائهم، وأن زمنهم قد ضاع منهم وفاتهم أن يحيوه، وهذا الأمر هو أصعب ما في الحياة التي وهبنا الله نعمة التمتع بعيشها، لا أن نضيعها من أيدينا ثم ننوح عليها لأنها قد ضاعت.

Ad

وأحمد الله كثيراً أنني قد عشت تفاصيل كل حياتي حلوها ومرها، أصعبها وأسهلها، باستغراق كامل حواسي فيها، التي ارتشفت بعمق لحظات السعادة والتعاسة والخوف والفرح، وامتصصتها برائحتها وبأصواتها وبلمسها وبمذاقها وبرؤيتها والتأمل في دقائق تفاصيلها، حتى تراكمت وتحولت إلى حيوات ماضية في داخلي، وخزين استمد منه ذاكرة حياتي كلها لأستعيدها وقتما أشاء، وأسحبها من خزين الماضي وأسترجع لحظات عيشها بذاكرة حواسي المتفتحة كلها، والتي تسعدني أحياناً وتصيبني بحالة من الشجن الغامض أحياناً أخرى، لكنها في كل الأحوال هي مركز ورصيد مشاعري الحسية لتوليد الكتابة، وما كتبته في مقالة "أبواب الغرف المغلقة" عن تربية الأبناء لم يعن أنني لم أعش تفاصيلها، بالعكس ربما عشت تفاصيلها أكثر مما يجب، وبجدية كبيرة لم يتح لي معها الاسترخاء، مما دفعني لاستعجال الانتهاء منها لثقل مسؤوليتها، لاسيما أنني قد حملت حمولتها وحدي، وأنا ما زلت أتذكر بكل وهج ذاكرة الحواس جميع التفاصيل الخاصة بهم أكبرها وأصغرها، لم تغب لحظة عني ولم تضع من خزين ذاكرتي.

هذا ما يدفعني إلى التفريق ما بين كلمة ضياع وكلمة مفقود، لأن كلمة ضياع تعني شيئا ضاع ولم نعشه، ولم نعتد عليه أو أنه لم يكن من ضمن صيرورة حياة معيشة، لكن كلمة مفقود تعني شيئا قد عشناه وأحسسناه وأدركناه لذا افتقدناه حينما غاب واختفى، ففي عيشه بالكامل يأتي معنى افتقاده، ولذلك أجد أن رائعة "الزمن المفقود" لبروست قد حمل عنوانها التسمية الصحيحة لما شعر به بروست من افتقاد لحياة قد عاشها وارتشف كافة تفاصيلها بكل طاقة حواسه المرهفة التي امتصت كل دقائق اللحظات المعيشة حتى نخاعها، واستطاعت قنصها وتحنيطها في أرشيف ذاكرة حسية جمدتها في محلول زمنها بكافة خواص اللحظة التي كانت وقتذاك، أي انها خزنت درجة ضوئها ورائحتها وملمسها وصوتها ولونها وطعمها، لذلك منحته القدرة على استرجاعها من ماضيها المفقود لأنه عاشه وأصبح مفقودا، لكنه ما زال حيا في ذاكرة تعرف كل تفاصيله لأنه عاشها بشفرة حواس لا تنسى.

ولو كان زمن بروست ضائعا لما كانت هناك أي مشكلة في التذكر وفي محاولة لاستعادة الماضي الذي أصلا لم يُعش ولم يوجد لأنه قد ضاع من أصله، ولم تتذكره شفرة وشبكة الحواس لأنها لم تعشه باستغراق كاف.

وهذا هو الفرق في المعاناة التي يكابدها من هو بالفعل قد عاش تفاصيل حياته بذاكرة حواس مشتعلة فهو يعيش لحظات الألم والسعادة أكثر من ذاك الذي يتحسر فقط على ضياع زمن لم يعشه ولم يدرك عذاب وعذوبة استرجاع مذاقه المفقود التي يحسها ويشعرها وكأنها على طرف لسانه، لكنه لا يستطيع أن يأتي بحضورها الكامل المتوهج.

هذه القدرة على استرجاع الماضي بكل دقة حواس تفاصيله، تعطي للزمن الماضي قيمة كبيرة، ربما حتى أعلى وأفضل من الزمن الحالي أو زمن المستقبل، فهو وحده يملك قدرة الاستعادة والتلذذ بتكرارها مرات ومرات، حتى انها في بعض الأحيان تكون ذاكرتها أحلى من واقعها ذاته الذي هو بالنسبة الى الفنان والكاتب تعتبر كنزا من كنوز استعادة حيوات لا تضيع ولا تفنى، وهو ما مكن بروست من استعادة زمنه المفقود بكل تلك القوة والقدرة الخارقة في الحضور.

وهذا ما أريد الوصول إليه من مقالي هذا، فحينما نعيش وندرك كافة تفاصيل حياتنا المعيشة، ونرتشفها على مهل بكل رهافة الحواس وبقدرتها العالية على قنص اللحظات وتخزينها بكامل ذاكرتها الحسية من شم ولمس ورؤية وسمع ومن ثمة تخزينها في زمنها الماضي لاستعادتها مرات ومرات تطيل من زمنها المعيش، وتضاعفه بكل تلك الذاكرة المليئة بالتفاصيل الحية التي لا تموت حتى وإن باتت في ماضيها فهي جاهزة للحضور عند أول ضغطة زر عليها.