أميركا ولحظة مجموعة الصفر

نشر في 22-05-2012
آخر تحديث 22-05-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كانت الأزمة المالية في عام 2008 بمنزلة النهاية للنظام العالمي كما كنا نعرفه. ومن المستحيل مع انعقاد قمة مجموعة الثماني أن نتجاهل حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة، للمرة الأولى في سبعة عقود من الزمان، أصبحت عاجزة عن قيادة الأجندة الدولية أو تقديم الزعامة العالمية في ما يتصل بكل المشاكل الأكثر إلحاحاً اليوم.

الواقع أن الولايات المتحدة قلصت حضورها في الخارج عندما رفضت المساهمة في إنقاذ منطقة اليورو، أو التدخل في سورية، أو استخدام القوة لاحتواء الطموحات النووية الإيرانية (على الرغم من الدعم الإسرائيلي القوي). فقد أنهى الرئيس باراك أوباما رسمياً الحرب في العراق، وهو الآن يسحب قوات الولايات المتحدة من أفغانستان بوتيرة لا يقيدها إلا ضرورة حفظ ماء الوجه. إن أميركا تسلم الآن عصا القيادة، حتى ولو لم تكن أي دولة أخرى أو مجموعة من الدول راغبة أو قادرة على حملها.

باختصار، قد لا تقل السياسة الخارجية الأميركية الآن نشاطاً عن أي وقت مضى، ولكنها آخذة في التضاؤل وأصبحت أكثر تشدداً فيما يتصل بتحديد الأولويات. ونتيجة لهذا فإن العديد من التحديات العالمية - تغير المناخ، والتجارة، ونُدرة الموارد، والأمن الدولي، وحرب الفضاء الإلكتروني، والانتشار النووي، على سبيل المثال لا الحصر- من المحتم أن تصبح أعظم خطراً الآن.

مرحباً بكم في عالم "مجموعة الصفر"، بيئة أكثر اضطراباً وأقل يقيناً، حيث سقط التنسيق فيما يتصل بقضايا السياسة العالمية على جانب الطريق. ومن عجيب المفارقات هنا أن هذه البيئة الجديدة، على الرغم من قسوتها، فإنها أقل إزعاجاً بالنسبة للولايات المتحدة؛ بل إنها توفر لها فرصاً جديدة للاستفادة من وضعها الفريد. إن عالم مجموعة الصفر ليس سيئاً بالكامل بالنسبة للولايات المتحدة، إذا لعبت أوراقها بشكل سليم.

إن العديد من مواطن القوة المتبقية تكتسب قدراً أعظم من الأهمية في مثل هذا العالم، وتظل أميركا تمثل القوة العظمى العالمية الحقيقية الوحيدة وتظل صاحبة أضخم اقتصاد على مستوى العالم، فلا يزال حجم اقتصادها ضعف حجم اقتصاد الصين. ويمثل إنفاقها الدفاعي ما يقرب من نصف ما ينفقه العالم أجمع على الدفاع، ويتجاوز إنفاق الدول السبع عشرة التالية للولايات المتحدة على الدفاع مجتمعة. ويظل الدولار العملة الاحتياطية الرئيسية في أنحاء العالم المختلفة، ويؤكد تكالب المستثمرين على ديون الحكومة الأميركية مع كل ارتفاع حاد لها في وقت الأزمة منذ عام 2008 على وضع أميركا باعتبارها ملاذاً آمنا (حتى في الأزمات التي أحدثتها أميركا).

وعلى نحو مماثل، لا تزال الولايات المتحدة تحتل مركز الصدارة في مجالات مثل ريادة الأعمال، والبحث والتطوير، والتعليم العالي، والإبداع التكنولوجي. فضلاً عن ذلك فإنها الآن الدولة الأكبر على مستوى العالم في إنتاج الغاز الطبيعي وتصدير الوحدات الحرارية، الأمر الذي قلل من تعرضها لصدمات الأسعار أو نقص المواد الغذائية.

ولا تنافس أي دولة الولايات المتحدة في ترويجها لسيادة القانون، والديمقراطية الليبرالية، والشفافية، وحرية المبادرة. ورغم أن بلداناً أخرى تدعم نفس القيم بلا أدنى شك، فإن الولايات المتحدة وحدها كانت الدولة التي تتمتع بالقدر الكافي من الرغبة والصحة والحجم لضمان سيادة هذه القيم. لذا، فرغم أن أميركا تحد من زعامتها العالمية، فإنها ستجد المزيد من الطلب عليها.

ولنتأمل هنا آسيا على سبيل المثال. مع تنامي أهمية الصين الاقتصادية ونفوذها الإقليمي، فإن جيرانها يسعون إلى تعميق علاقاتهم بالولايات المتحدة. وأخيراً أتمت اليابان وأستراليا وإندونيسيا وتايوان اتفاقيات تجارية وأمنية مع الولايات المتحدة. وحتى بورما لحقت بالركب وقررت استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة مع العمل في الوقت نفسه عى الخروج من ظل الصين.

بعبارة أخرى، في عالم "مجموعة الصفر"، تعمل البيئة العالمية المتزايدة العدائية على جعل الولايات المتحدة أكثر جاذبية في نظر البلدان التي تسعى إلى تأمين رهاناتها. ونتيجة لهذا فإن الولايات المتحدة لديها الفرصة للعمل بشكل أكثر دقة بما يتفق مع مصالحها الخاصة. إن تقديم قدر أقل من الزعامة يسمح للولايات المتحدة بوضع تكاليف كل فرصة على الميزان قبل اتخاذ أي قرار، كما يسمح لها هذا باختيار القضايا والظروف التي تناسبها. وفي هذه البيئة فإن التدخل العسكري في ليبيا لا يفرض نفس الشيء في حالة سورية.

ويتبقى أن نرى مدى استفادة الولايات المتحدة من هذه الفرص. والحق أن المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة في الأمد القريب تشكل العقبة الأكبر أمام مستقبلها في الأمد البعيد. ولنطلق على هذا "لعنة الملاذ الآمن": فطالما ظلت الولايات المتحدة بمنزلة الميناء الأكثر أماناً في أي عاصفة، فإنها لن تواجه أي ضغوط مباشرة قد تحملها على معالجة نقاط ضعفها.

على سبيل المثال، على الرغم من كل الكتابات عن الدين الوطني الأميركي، فإن المستثمرين سيستمرون في إقراض الولايات المتحدة. ولكن في الأمد البعيد يتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة أن يحرزوا تقدماً ثابتاً في استعادة الثقة في صحة البلاد المالية من خلال خفض البرامج المقدسة سياسياً مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، والدفاع. وسيكون لزاماً على المسؤولين أن ينحوا جانباً الدوافع القصيرة الأمد والعقيدة الحزبية لتعزيز البنية الأساسية المتهالكة في أميركا، وإصلاح أنظمة التعليم والهجرة، والسعي إلى ضبط الأوضاع المالية في الأمد البعيد.

إن المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة في عالم "مجموعة الصفر" تمنحها الفرصة للاستثمار في المستقبل. ولكن بالتحوط ضد المخاطر المفجعة فإن نفس المزايا من شأنها أن تسمح للولايات المتحدة بالمماطلة. يتعين على الساسة الأميركيين أن يدركوا واقع مجموعة الصفر الجديد وأن يعملوا على إعادة بناء مصادرة القوة المحلية لأميركا، حتى ولو بشكل تدريجي. وإذا فعلوا هذا فإن الولايات المتحدة ستتمتع بالقدر الكافي من القوة والمرونة لصياغة النظام العالمي المقبل.

إن النظام السياسي الأميركي يعمل بشكل جيد في الأزمات عادة. ولكن بفضل مزاياها المتبقية في عالم بلا زعامة، فإن الولايات المتحدة لن تضطر إلى الاعتماد على الأزمات للتعجيل بالعمل، وما عليها إلا أن تغتنم الفرصة التي تمنحها إياها لحظة "مجموعة الصفر".

* إيان بريمر | Ian Bremmer رئيس مجموعة أوراسيا، ومؤلف كتاب "كل دولة لنفسها: الفائزون والخاسرون في عالم مجموعة الصفر".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top