معركة الانتخابات الرئاسية المصرية، وكتابة الدستور المصري الجديد، من أهم محاور السياسة المصرية الآن. ويبدو أن معركة الانتخابات الرئاسية المصرية قد حُسمت أو كادت، بإعلان جماعة الإخوان المسلمين ترشيح نائب المرشد العام (خيرت الشاطر) أو محمد مرسي (كمرشح احتياطي) في حالة أخرى. وبذا، أصبح من شبه المؤكد أن يكون الرئيس المصري القادم من الإخوان المسلمين، لكي يتولى الإخوان السلطة التنفيذية بعد السلطة التشريعية في مجلس الشعب والشورى، بعد أن فشلوا في إقالة حكومة الجنزوري، وتولي رئاسة الحكومة كسلطة تنفيذية، يستطيعون من خلالها تنفيذ وعودهم الانتخابية التي قطعوها لناخبيهم، لكي يضمنوا العودة إلى السلطة في الانتخابات القادمة، وإلا سيفقدون مصداقيتهم، حتى لو أعطوا الناخبين ضعف المبالغ التي أعطوهم إياها في انتخابات 2011، وحتى لو أعطوا ناخبيهم ضعف كميات السكر، والرز، والزيت، واللحم، التي أعطوها في الانتخابات الأخيرة.
كتابة الدستور قصة أخرى مختلفةمن المعروف أن للتيار الديني الأغلبية في مجلسي الشعب والشورى، وقد تقرر في البدء أن يكون أعضاء اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور مئة عضو نصفهم من مجلسي الشعب والشورى والنصف الآخر من خارجه، يتم اختيارهم بواسطة الأغلبية الدينية التي ستختار حتماً من هم على هواها السياسي والديني. وهذا من حقهم، ولا أحد عاقلاً يستطيع أن يُماري في ذلك، أو ينكره، ولو كان لليبراليين، أو الشيوعيين، أو أي فريق آخر، الأغلبية التي للتيار الديني في مجلس الشعب والشورى الآن، لفعلوا الشيء نفسه.فلماذا العجب؟ولماذا كل هذا التبرم؟أليست الديمقراطية بتعريفها البسيط هي حكم الأغلبية، التي تأتي بانتخابات شعبية نزيهة وشفافة، كما جاء في الانتخابات المصرية في 2011؟ألم يفز حزب "العدالة والتنمية" التركي بالانتخابات التركية الأخيرة، ويصبح هو الأغلبية؟ألم يصبح رئيس مجلس النواب التركي من هذا الحزب، كما هو الآن سعد الكتاتني؟ألم يصبح أردوغان العضو البارز في الحزب رئيساً للوزراء الآن؟ألم يصبح عبدالله غول العضو البارز في الحزب رئيساً للجمهورية التركية؟إذن، لماذا تنكرون على التيار الديني المصري والتيار الديني التونسي- وهما الأغلبية في البلدين- تولّي السلطة التشريعية والتنفيذية، أسوة بما حصل في تركيا التي نتغنى جميعاً بتجربتها السياسية، وننادي بتطبيقها في العالم العربي؟مصر ليست جزيرة قبرصإن قرار أن يكون عدد أعضاء اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور المصري الجديد مئة عضو، قرار غير صائب منذ البداية.فمصر ليست جزيرة قبرص، ولا هي مملكة البحرين، ولا هي كوستاريكا، مصر بلد كبير، تعداد سكانه يفوق 85 مليون نسمة. فكان من الواجب أن يكون أعضاء اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور 500 عضو على الأقل، لكي يمثلوا كل الشرائح السياسية، والفنية، والثقافية، والصناعية، والزراعية، والاقتصادية، والدينية، وغيرها من شرائح المجتمع المصري، وبعدد جيد يُرضي معظم الشرائح. وفي حالة تعذر ذلك، يقوم المجلس العسكري -مثلاً- بتعيين أعضاء اللجنة بالكيفية والعدد الذي يراه، ولننتظر كيف سيكون عليه دستور "مصر الجديدة"؟امنحوا التيار الديني الوقت الكافيهناك من يقول: اتركوا التيار الديني يختار من يشاء من أعضاء اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور، ولنرَ كيف سيكتب هؤلاء هذا الدستور؟ويقولون أيضاً: دعونا نقرأ هذا الدستور لنرَ، هل يصلح للتطبيق في المجتمع المصري في عام 2012 وفي القرن الحادي والعشرين؟ولماذا يستبق الليبراليون وغيرهم الزمن والأحداث، ويفترضون أن التيار الديني سيأتينا بدستور متخلِّف، لا يصلح للتطبيق إلا في العصور الوسطى الخوالي؟قوة التيار الديني من ضعف الليبراليينإن الشارع المصري، أو التونسي، أو أي شارع آخر يصل فيه التيار الديني إلى الحكم كما وصل في تونس ومصر، ليس من مسؤولية التيار الديني بقدر ما هي مسؤولية التيار الليبرالي، وغير الليبرالي!فضعف هذا التيار، وضعف غيره من التيارات، وتشتتها، وذهاب ريحها، وانهماكها في التنظير، وعدم الالتفات إلى مشاكل كل مجتمع عربي على حدة، هو الذي أوصل التيار الديني بأصوليته وسلفيته إلى السلطة في بعض البلاد العربية.والخطأ الأكبر والأفظع الذي ارتكبه التيار الليبرالي وغيره من التيارات الحداثية الأخرى، أنهم تركوا للتيار الديني حبل الإسلام على غاربه، وجعلوا- بهذا الترك، وهذا الإهمال- التيار الديني، وكأنهم الأوصياء الوحيدون على هذا التراث، يفسرونه كما يشاؤون، ويطبقون منه ما يشاؤون، يأخذون ما يشاؤون، ويتركون ما يشاؤون، ويرفعون منه ما يشاؤون من الشعارات. وبدا الطرف الآخر من الليبراليين وغيرهم كفرة، فجرة، وملحدين، ولا يمتون إلى الإسلام بصلة! ولم يقم الليبراليون ببيان فلسفة وآثار الليبراليين الكلاسيكيين المسلمين أمثال: الفارابي، والكندي، والرازي، وابن سينا، والتوحيدي، وابن رشد، والنظّام، وغيرهم، رغم أن الراحل عباس محمود العقاد سبق أن قال في كتابه "الإسلام في القرن العشرين... حاضره ومستقبله" إن الليبراليين هم الأقدر على تجديد "التفكير الديني"، وأتى بمثال المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي، والباحث البريطاني جب Gibb أستاذ العربية والدراسات الإسلامية في جامعة إكسفورد، الذي يقرُّ– هو الآخر- ويعترف بأن "[تجديد التفكر الديني] في الإسلام، يبدأ من جانب الليبراليين، وأن التجديد ينتشر في العواصم- حيث يقيم الليبراليون– وقلما يسري التجديد في الأقاليم.ويقول الباحث والأكاديمي ولفرد كانتول سميث أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة "عليكرة" الهندية، بأن دُعاة التجديد، أثبتوا قابلية الإسلام للتحضر، والتمدن". ولكن عجز الليبراليين وغيرهم من الحداثيين وإهمالهم وتكاسلهم، جعل الشارع العربي يعتبر أن التيار الديني هم رواد تجديد التفكير الديني فقط.النوم في العسللقد نام الليبراليون وغيرهم من الحداثيين في العسل، وظنوا أن التيار الديني تيار متخلّف، يُطلق شعارات رومانسية، لدغدغة عواطف الجماهير فقط، ولرصِّ صفوفها إلى جانبه، وكأنه قد تخيّل أن التيار الديني مازال يعيش في القرون الوسطى، وليس في القرن الحادي والعشرين، بكل إنجازاته العلمية، والتقنية، والفنية، والتي استغلها التيار الديني لمصلحته أفضل استغلال. ولكن فوجئ الليبراليون وغيرهم من الحداثيين أن التيار الديني تيار (ناصح)– كما يقول المصريون– وأنهم وعدوا جمهورهم بوعود، يمكن تطبيقها على أرض الواقع. لذا، فهم يسعون الآن إلى الإمساك بالسلطة التنفيذية، من خلال ترشيح واحد منهم لانتخابات رئاسة الجمهورية، لكي يستطيعوا تنفيذ ما وعدوا به. فمجلس الشعب أو الشورى مجلسان تشريعيان فقط، ولا سبيل معهما إلى تطبيق الوعود الانتخابية الوطنية، ويعلم التيار الديني أن ضمان عودته إلى السلطة بعد أربع، أو خمس سنوات، مرتبط أشد الارتباط بتنفيذ وعوده للناخبين في عام 2011، والتيار الديني كما لاحظنا اليوم، يسعى سعياً حثيثاً إلى السلطة إلى حد الشبق السياسي، نتيجة للحرمان الطويل الذي عاناه في مصر وخارجها، ونتيجة للملاحقة والاضطهاد والتعذيب الذي لقيه في العهود الماضية، سواء الملكية منها أم الجمهورية.إذن، لنعطِ التيار الديني فرصته، كما أعطى الشعب التركي لحزب "العدالة والتنمية" الفرصة الكافية، ولنرَ ماذا ستأتي به الأيام؟!* كاتب أردني
مقالات
كيف لمصر أن تكتب دستورها الجديد؟
11-04-2012