إن الشعر الذي عاد يتجه إلى فنون الأداء باستخدام كل عناصر التكنولوجيا الحديثة والمالتيميديا، فأصبحت مفاهيم مثل الهابيننغ والبروفورمانس وفنون التجهيز والبوب-آرت والفيديو-آرت، في صميم الأداء الشعري.
إن هذه التحولات المركبة أصبحت الآن تعزّز أكثر فأكثر مفهوم التواصل والتقارب بين أفراد الجماعات.عندما كنت في نيويورك حضرت شخصياً بعض هذه التظاهرات الشعرية الفنية، ففي أمسية شعرية للشاعر الأميركي غريغوري كورسكو، وهو يقرأ قصائده، كان يحاكي الجمهور بحركات تمثيلية، كأنما يرسم بيديه إشارات في الهواء.هذا الأمر نفسه ينطبق على آلن غينسبرغ أو أميرباراكا وآخرين، وهم يقرأون نصوصهم على الإيقاعات الهادرة لموسيقى الجاز، بل إن هناك من ذهب ليطوّر مفهوم القصيدة-اللوحة، مثل الإيطالي ناني بالستريني، أو الشعر البصري والتخطيطي عند الشاعر اليوناني ديموستينس غرافيوتيس.وكل هذه التجارب تستند إلى آخر المبتكرات التكنولوجية، من أجل فك العزلة عن الشاعر، لكن ماذا عن التجربة العربية المعاصرة؟ إن نظرة سريعة إلى الأربعينيات والخمسينيات، وصولاً إلى الستينيات، تبدو لي تجربة «الخبز والحرية» في مصر: جورج حنين، رمسيس يونان، فؤاد كامل، كامل التلمساني، إنجي أفلاطون، أوضح التجارب في جعل اللقاء الشعري والتشكيلي ممكناً، سواء عبر المعارض الفنية أو التظاهرات الشعرية أو المجلات والكراريس التي صدرت حينها، وكانت هذه التجربة سباقة بفعل ارتباطها بالحركة السوريالية العالمية بشكل عام، والفرنسية بشكل خاص، واستمرت حتى قيام الثورة المصرية عام 1952.ومع ظهور حركة الشباب واليسار الجديد في أوروبا في الستينيات من القرن المنصرم، أخذت التجربة الشعرية والفنية في العراق بالنهوض، مع وجود فسحة من الحرية النسبيّة، فظهر جيل مختلف من الشعراء والكتّاب والفنانين التشكيليين وحتى السينمائيين، هم من أُطلق عليهم جيل الستينيات، عبر نشاطات مستمرة، سواء في القراءات أو المعارض التشكيلية أو التجمعات والمنابر من صحف ومجلات تلك الفترة، فظهرت أسماء الشعراء، فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، عبدالقادر الجنابي، أنور الغساني، مع التشكيليين شاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي وفايق حسين وإبراهيم زاير... إلخ، وكانت هذه التجربة تستفيد على صعيد التشكيل من بعض منجزات التجربة الغربية، بربطها بسياقات ثقافية محلية وتراثية، وربما كانت تجربة بلند الحيدري الشعرية واحدة من التجارب المبكرة التي لم يُلتفت إليها كثيراً، كما لم يُطورها هو نفسه، تحديداً من جهة اهتمامه بالتشكيل، فقد ذهب بلند الحيدري في مجموعته الشعرية «حوار عبر الأبعاد الثلاثة» إلى الاستفادة من عناصر النحت كالفراغ والمساحة والكتلة من النحّات الإنكليزي هنري مور.إن تعددية التعبير البصري ستقود كذلك الفنان السوري الراحل عبدالقادر أرناؤوط، بعد اكتشافه إشارات الألماني بول كلي، كطريقة للمزاوجة «الأصلية بين الحساسية الشعرية والتشكيلية»، خاصة أن بول كلي كان يستثمر عدة الشرق العربي الإسلامي من الزخارف والنقش والموتيفات الحضرية من نواظم التراث التنزيهي في الزخرفة ومنمنمات المخطوطات، كما يعبّر الناقد والفنان التشكيلي أسعد عرابي.إن العلاقة بين الشعر والتصوير في العالم العربي أخذت حيزاً لا بأس به، فيوماً بعد يوم نرى نوعاً من التشارك الخلاق بين عناصر هذين الفضائين عبر رغبة الشعراء والفنانين في دفع التجربة إلى مدى أوسع، فضياء العزاوي اشتغل على أعمال أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وقاسم حداد... إلخ.بينما نجد قراءات الشعراء للتجارب التشكيلية على نحو دائم، وهناك من الشعراء من يمسك بطرفي المعادلة كالفنان التشكيلي والشاعر أحمد مرسي المقيم في نيويورك، تجربة الفنان والشاعر سمير الصايغ منذ السبعينيات من القرن الماضي، والراحل محمد القاسمي والفنان العراقي أرداش، وصولاً إلى الشاعرة والفنانة ميسون صقر القاسمي في الإمارات، وها هو أدونيس الشاعر تقوده التجربة إلى ما يسميه بـ»الرّقيمات»، وهي ابتكارات كولاجية-بصرية يستخدم فيها الكتابة كخلفية لونية، وهناك بالطبع تجارب أخرى تدخل في سياق ما أتحدث عنه.
توابل - ثقافات
القصيدة واللوحة 2-2
24-10-2012