حين تنتهي من قراءة القصة الأخيرة في مجموعة منى الشمري

Ad

"يسقط المطر... تموت الأميرة" تنتابك مشاعر لا حصر لها، تشعر أنك محاصر بالمكان وتفاصيله، تشعر أنك محاصر بمشاعر الأطفال وعذاباتهم، محاصر بالبيوت التي تباغتها الرياح لتكشف سترها، تشعر كل ذلك. ولكن الشعور الوحيد الذي لا ينتابك أبدا هو أن تلك هي المجموعة الأولى لمنى الشمري.

هناك حرفة متأصلة في التمكن من تقنيات القصة القصيرة ولغتها الخاصة وادراك رموزها وحيلها. المجموعة التي أوهمتنا منى الشمري أنها مجموعتها الأولى لم تعترها ارتباكات المجاميع الأولى التي اعتدنا عليها، هناك وعي كامل بالفعل الأدبي ودراية تامة برسالة كل قصة في المجموعة. تناوبت القصص على توحد المكان ووحدة الزمان وأحادية الراوي فبدت المجموعة متتالية قصصية لشخوص تختارها بطلة ثابتة تقدمها وتؤخرها، لكننا بعد كل قصة نعلم أن تلك الشخوص التي لم تشارك في هذه القصة أو تلك هي شخوص موجودة في ذات المكان الذي تركناها فيه تمارس عملها وفق أقدارها المرسومة لها. وربما الشخصية الوحيدة التي فرت من المكان ونعلم برحيلها النهائي هي الفتاة الأجنبية التي أحبها البدوي/ القروي وهو هروب متعمد فرضه المكان أولا قبل أن تفرضه نظرة المستعمر للمكان ورغم أن القارئ قد يرى أن هناك بساطة في طرح قصة حب بين فتاة مغايرة ورجل قروي بسيط. الا أن هذه البساطة تتلاشى حين نتجاوز المستوى الأول للقراءة. هناك  طرح كولونيالي ليست مهمة القاصة أن تباشره مباشرة فجة وليست مهمتنا أن نتجاهل تفاصيله التاريخية والبعد الاجتماعي والسياسي للمستعمِر والمستعمَر.

ما تركته منى الشمري للقارئ هو محاولة اعادة بناء المكان الذي فككته (الفحيحيل)، قد نبدأ ببيوت المعازيب أصحاب الثراء وزرائب البقر حيث يسكن القائمون عليها في صفيح ويعيش أبناؤهم على بقايا الحليب والحلم. ومنازل القادمين من بيوت العشيش ودفء الخشب الى بلادة الحديد ليشكلوا الطبقة الوسطى بين المعازيب وخدم الزرائب. نعيد رسم السوق الذي يمارس فيه عرب وعجم تجارتهم. فيمتلئون إلى حد السمنة القاتلة كخباز السوق وأبنائه أو يصابون بالجنون كالرسام التركي جبريل. ونعيد رسم سكن مهندسي النفط وحياتهم الباذخة التي لا يتسلل اليها سوى البدوي المجنون بأوهام حب فاشل، ونرسم السياج العالي الذي يمنع الاقتراب منهم. وحين تكتمل هذه المدينة الصاخبة يطل جبل وارة من بعيد كمتنفس وحيد يذكر أهل المدينة بتاريخهم القريب قبل أن يجذبهم مال النفط الى حقوله في رحلة نحو بداية ثاني.

مجموعة منى القصصية لا تنوي نكء جراحنا الوجودي وتذكرنا بخريطة المكان فحسب لكنها ترسم لنا قدرة المكان على استلاب شخصياتها وتشكيلها في تطور مصاحب لتطورات المكان. أغلب شخصيات العمل هي ضحايا هذا المكان بشكل أو بآخر، سواء كان هذا التطور البنائي في الشخصيات ايجابيا كحال سعاد صاحبة الصالون أو سلبيا كحال فاطمة التي أغرقها المكان الجديد بالعار وماء النار. وربما الوحيدة التي عاشت ثباتا متزنا هي الراوية تنظر الى المكان وكأنها قادمة من بعيد لدراسته والكتابة عنه.

منى الشمري ليست قاصة جديدة نبشر بها فهي صاحبة قلم صحفي منذ أكثر من عشرين عاما ولم تكن في هذه المجموعة سوى صاحبة قلم أدبي تزور المكان الذي غادرته ولم يغادرها وتحسن الكتابة عنه بامتياز.