عاصر جيلي البحر والنفط

Ad

الفنان النهام راشد الجيماز صارع البحر خلال أيام الغوص، وعاش جل حياته فوق السفن، يبحث في الأعماق البعيدة عن مصدر رزق، وهو أحد الذين صنعوا هذه الملحمة من تاريخ الكويت.

يمثل الفنان راشد بن صالح بن جاسم الجيماز لحظات التسلية والمرح في حياة البحّارة الخالية من كل شيء إلا من العمل الشاق، فكان نهاماً وظلت تشده هذه المهنة وذكرياتها حتى وفاته.

كان من الفنانين الشعبيين الذين عاصروا جيل البحر وجيل النفط، ومن النهامين المعروفين الذين ضحوا بشبابهم في البحار بين أمواجها الهائجة ولياليها المظلمة، وكان دوره آنذاك مهماً وهو إضفاء جو من الطرب خلال العمل الشاق للبحارة.

يقول الجيماز عن رحلة الغوص إن والده أرسله إلى «المطوع» (يدرّس العلوم الدينية)، فتمرد على رأي أهله، وكانت رغبته هي الغوص في أعماق البحر الذي يشتاق إليه بفطرته، فرضخ أهله وكان له ذلك.

يضيف: «أول مرّة دخلت البحر كنت في العاشرة من عمري، وكنت آنذاك «تباباً» مع عبدالله المسبيح. بعد ذلك قضيت 38 عاماً في الغوص والسفر، منها سنة واحدة «مجدمي»، كنت فيها «تباباً» ومن ثم «رضيفاً» أي ما يعادل اثنين «سيب».

أعجب به كل من عمل معه فنال أجراً يعادل أجر نصف غوص، وكان لا يقوى على ممارسة الغوص لضعف بدنه وهزاله وصغر سنه أيضاً. ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره اقترن الغناء بالعمل على السفينة، فنال أجر غوص كامل، لكنه نال من «الطواش» صاحب السفينة وسوق اللؤلؤ «إكرامية» مضافة إلى ما يتقاضاه عن العمل. ولم تمض مدة حتى أصبح «نهاما» بفضل كثيرين شجعوه...

أنغام البحر

ما جذبه في حياة البحر تلك الأنغام والأغاني البحرية التي يطلقها «النهامة» فجالت بخاطره وسرت في عروقه. من النهامين الذين عاصرهم: فرحان بوهيله، سعد بن فايز، بوغانم... لم يتأثر بأي من هؤلاء أو غيرهم، فقد اعتمدت مكتبة الأغاني الشعبية في الإذاعة الكويتية على كثير من أعماله الفردية والجماعية التي شارك فيها، خصوصاً مع الراحل عوض دوخي، كذلك اللقاءات والحوارات حول «فن النهمة» البحرية في الكويت.

يعدّ الجيماز أفضل من قدم النهمة بشكل صحيح وأداء قديم أصيل مع الفرق الشعبية في أعمال البحر، وشارك في أفلام وثائقية من بينها: «الفنون» إشراف الدكتور يوسف دوخي وإخراج هاشم محمد، كذلك شارك في تسجيل أغانٍ فلكلورية من خلال الإيقاع على المرواس، وفي أعمال سينمائية وتلفزيونية وإذاعية. كذلك هو من الفنانين الذين يجيدون العزف على إيقاع «المرواس» والطبل والطار، وقد رافق كبار الفنانين في الكويت، أبرزهم الفنان الراحل عبد الله فضالة.

زهيري

من المواويل المشهورة التي أداها في أكثر من مناسبة، موال زهيري في عنوان «وادعتكم» شعر سعد الفايز، يقول فيه:

وادعتكم بالسلامة ياضوى عيني

بخلافكم ما غمض جفني على عيني

واعدتني بالوعد لمن جفت عيني

ظليت ياسيدي جسم بليا روح

فر العقل مني وظل الجسم مطروح

كل العرب هودت وأنا شقي الروح

يانور عيني مثل ما راعيك راعيني

حدّد راشد الجيماز النهمة بالقول: «لها شروط وإيقاع وصوت خاص، فمثلاً المحرقي خفيف وراكد ويامي وغريري، هذه تسمى «نهمة الميداف». نهمة حركة القاع والكف وهي من نهم الغوص وتختلف عن نهم السفر... ففي السفر تكون بطيئة أما في الغوص فهي أسرع، مثال على ذلك: «دواري»، «لمة الحبيب» وهي معروفة بـ «الهولو»... أما «كفات الأشرع» فلها فن خاص وإيقاع يختلف، كذلك «الخطفة» نهمة تختلف عن نهمة الغوص».

عايش الجيماز أشهر المطربين الشعبيين منهم: يوسف البكر وخالد البكر، وكان يتابعهما في حفلات الزواج والحفلات الخاصة، كذلك عايش ثلاث فرق نسائية قديمة: «شما الوريدة»، «أم عنتر بنت جمعة»، «هدية المهنا»، ومطربين وعازفين على العود من بينهم: علي الخضر ومحمد السمحان، وعازفين على إيقاع المرواس والطبل والطار من بينهم: عبدالله فضاله وعوض دوخي.

لم يكن ملماً بالقراءة والكتابة، لكنه ألّف بعض أغانيه خصوصا «الزهيريات»، أغنية شعبية بعنوان «غرورها في يوم صباي»، يقول في مطلعها:

غرروها في يوم صباي ما منه

ضيع افكاري وتبرى كل ما منى

حفظل شفاني وذلك السوق ما منى

يا حيف بدلتها عقب الصداقة أفكار

من غم لك غم بك جازم على اليمين افكار

انضمام قلبي واقام زلات ما منى

من الأغنيات التي سجلها بصوته لمركز الفنون الشعبية «يا عديل الروح» من فنون الخماري الرباعية، يقول فيها:

يا عديل الروح يا غالي

ما نام الليل والقبط من رقد

لا بالله في قضى بالجفاء.. هاجني

من عشير راح عني وابتعد

جود بالمحبوب وبحنه راهي

في جميع البيض مركوز النهدا

دور النهام

في أحد حواراته الصحافية قال عن دور النهام والاستعداد لسير السفينة إلى الغوص في بحار الخليج:

«تكون السفينة معرشة... يأمر المجدمي برفع العريش عن السفينة ويجتمع بالبحارة في المكان المعتاد للقاء ألا وهو القهوة، ويعين مجموعة تنام في السفينة حتى الصباح، والآخرون يحضرون في الصباح الباكر، حيث يتكاملون استعداداً لدهان السفينة، ومن هنا يبدأ أول دور للنهام، فينهم ليطرب العاملين ويغني السنكني ويقفل بشبيثي.

بعد انتهاء البحارة من دهان السفينة يطلب منهم إخراجها من «النقعة»، وعند إخراجها يرزون القلمى، فإذا كان هناك هواء يشرع الشراع، وإذا كان الهواء هادئاً تسحب السفينة بواسطة «الماشوه» ويكون في خلفها «الدقل- الدستور- الفرمن»، حتى يصلون الطونية «شرق الشويخ» فيرمون «الباورة» ويشطمون السفينة، وبعدها يثبتون «الميدفة» و»الشيب» ويضعون عليها «قفية» يسمونها «التالية» (أم فخذين فوق، ومقفية من فخذ واحد تحت)، ثم يحضرون «الدقل والدستور»، وأول ما يحملون «الدستور» ويضعونه على السفينة، وبعد ذلك يحضرون «الدقل»، ثم «الفرمن» يوضع على ظهر السفينة مشبكاً بالشراع.

بعد هذا العمل الشاق يطلب «النوخذة» من البحارة أن يحضروا هذه الليلة ليأخذوا «السلف»، وبعد أن يستلم كل واحد حصته، يعطي «النوخذة» مهلة يومين أو ثلاثة أيام حسب تخطيطه واستعداده للسفر، محدداً بذلك موعد السفر، وعند أول خطوة تخطوها السفينة مبتعدة عن «الماشوه» يبدأ عمل النهام.

ومن خلال موقف البحارة في الفراق نتيجة وجودهم مدة طويلة في البحر، يتطلب من النهام أن يرشد الزوجة والحبيبة والأم والأخت إلى الحفاظ على الحلال وصون الشرف.. ووجود الأهل والأقارب على «السيف» ملوحين بأيديهم والدموع تنصب بغزارة، لعدم معرفة المصير المجهول.. ولكي يعطي النهام صورة صادقة لهذا الموقف يبدأ بالنهم «يامل» زهيري للمرحوم سعد الفايز.

وفاته

توفى الفنان النهام راشد بن صالح بن جاسم الجيماز عن عمر يناهز حوالي 78 سنة.. وبوفاته فقدت الحركة الفنية الكويتية أحد أفضل الفنانين الشعبيين. كان، رحمه الله، مكافحاً محباً لفنه الشعبي، فظل يشارك في تقديم النهمة في كل عمل شعبي يقدم ليعطيه الأصالة التي نحتاجها لمثل هذا الفن العريق الذي سيسجل جانباً مهماً من تاريخ الكويت القديم.

راشد الجيماز جيل بكامله... عاصر القديم والجديد وترك ثروة من الفن الأصيل بمشاركته في العزف والغناء وبلون خاص به.

من أقوال الجيماز

• كانت رحلاتنا بالتناوب... مرّة للتجارة إلى الهند، ومرّة للغوص، الرحلات التجارية كانت عن طريق «المحمل»، نأخذ من هنا التمور ونبيعها في بر الهند، وفي البلدان التي نمر بها خلال الرحلة، وفي العودة نحمل الأخشاب والكمبار.

• كانت رحلة «المحمل» تستغرق تسعة أشهر، وتكون حصيلة الرحلة الجيدة في حدود 20 ألف روبية، يأخذ النوخذة نصفها، والنصف الآخر يوزع على البحارة، فكان البحار يأخذ «قلاطة» واحدة (سهم) والنهام «قلاطتين» (سهمين)، سهم وثلاثة أرباع السهم مقابل الصوت والغناء، وربع السهم الباقي مقابل استعمال الآلات التي كانت عبارة عن طارات وطبول ودفوف «حق طرب البحر»، وكانت «القلاطة» تساوي غالباً 100 روبية.

• نمت مع أهلنا عشرة أيام فقط، ثم نغادر في الرحلة الثانية.. رحلة الغوص فنمكث فيها أربعة أشهر أوعشرة.. ونعود مرة أخرى لنمكث بين أهلنا عشرة أيام، ونخرج من جديد في رحلة التجارة «المحمل». هكذا قضينا حياتنا الأولى.

• كان الغوص قسمة ونصيب منهم من يحظى بــ «دانة» لؤلؤة ثمينة، ومنهم من كان يذهب تعبه من دون مقابل، ولا يعود حتى بطعامه.

• كان هناك «قلبان» آبار في بر الكويت، في الأماكن التي تقوم عليها مناطق الشامية والدسمة وكيفان، ومكان «أبو دوراه» في دسمان، وكنا ننقل الماء بـ «جحلة» أو برميل، ثم اشترت الكويت بعد ذلك بضع سفن لجلب الماء من البصرة، وكانت تفرغ في أماكن معينة، ويحملها الحمارة والكندريون، ويبيعون تنكة الماء بآنة (4 بيزات) وبعضهم كان يوزعه في «قرب» وتتسع القربة لتنكتين أو ثلاث، والكندري الذي يعلق تنكتين بخشبة على كتفه، كان يبيع حمله بأربع آنات.

كانت رحلة السفينة إلى البصرة تستغرق ساعة ذهاباً وإياباً. وبعض السفن كان يحمل أربعة آلاف تنكة وبعضها عشرة آلاف، وكانت السفن حكومية تشبه «الشركة» وعليها رئيس.

• في ذلك الزمان كانت راحة الرجل من راحة أهله وبيته، وكان كل الفريج (الحي) عبارة عن بيت واحد (قلبك أمين) لكن الآن قلبك مشغول.

• نهمة «اليامال» نفسها لم تتغير منذ عاصرتها حتى اليوم ولم أسمع بأنها كانت من قبل تختلف عما هي عليها الآن.

• فن السنكني قدمه الكويتيون بالصورة المعروفة ويعتبر من الفنون الشعبية في الكويت.

• أبو قاميه وأبو سعيد وفرج الطنبورة... من المعروفين في عزف الصرناج في أيام الغوص والسفر.

  إيقاعات متميزة

رحلة كفاح طويلة أمضاها الفنان النهام راشد الجيماز قبل الوصول إلى المكانة الكبيرة والسمعة الطيبة التي حظي بها بين معاصريه، بل حتى من أبناء الجيل الراهن الذين يقدّرون عطاءاته وفنه. في هذا السياق قال الباحث يوسف السريع: «الجيماز أحد رموز الأغنية الكويتية الشعبية في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، بل هو أحد أبرز نجوم الأغنية الكويتية على الإطلاق. هو البحار والنهام وله إسهام واضح في مجال الأغنية الشعبية وهو من الرواد الذين وضعوا لها بصمة مهمة. ويمتاز الجيماز بالخلق الرائع بشهادة جميع الذين عملوا معه وكانوا متواجدين في الفترة التي تواجد فها على السفينة أو البحر».

وأوضح السريع أن الجيماز فضلاًُ عن تراثه الغنائي يعتبر كنزاً معرفياً كبيراً في عصره، واستفاد الباحثون من معلوماته وأحاديثه التي كان يدلي بها لهم، فقد أمد الله في عمره، وعمل لسنوات طويلة في فنون البحر مع كثير من الفرق البحرية في الكويت ومن بينها عمله مع رقة معيوف ومع فرقة العميري اللفنون الشعبية، بالإضافة إلى كثير من الفرق الفنية البحرية الأخرى.

وأشار السريع إلى أن الجيماز يمتاز بقدرة رائعة على تركيب الإيقاعات المتميزة وكان على الدوام حريصاً على أن يعمل على آلتي الطبل والطار ويمتاز باللون الشعبي الجميل الذي كان متسيداً في ذلك الوقت مع الكثير من الفرق الشعبية، مشيراً إلى ضرورة تقدير هذا الجيل من الفنانين وتخليد أعمالهم، وجلها يتمحور حول الفن الشعبي والفلكلور الكويتي الأصيل.

وتحدث الفنان القدير مصطفى أحمد عن تجربة الفنان الراحل راشد الجيماز بكل صراحة معتبراً إياه أحد أهم المراجع والرموز في الفن الخليجي، ويعتبر أحد الرجال الذين ظهروا ضمن جيل من أبناء الكويت المبدعين من النجوم الأوائل الذين وضعوا بصمة مهمة في الغناء الشعبي والفن الأصيل. وقال: «راشد الجيماز أحد ممثلي الفرق الشعبية القديمة، ومؤرخي الغناء في مرحلة الغوص وما بعدها، وهو بعيد كل البعد عن الألوان الغنائية الحالية التي تشتهر في الوقت الحالي من ألوان غنائية مختلفة مثل اللون العاطفي أو اللون الحزين و لكلاسيك ولكنه يمتاز باللون الشعبي المتميز القديم المتأصل في جذوره منذ نشأة الفن في الكويت».

وكان الفنان الراحل يجمع بين سعيه إلى عيش حياة كريمة عن طريق البحر، وتقديم موهبته الفنية في الطبل والإيقاع والغناء الذي كان يشجي البحّارة في عهده. وأحب الناس غناءه في الفلكلور القديم، وأغاني الفرق الشعبية القديمة. ودعا السريّع إلى الاهتمام بهذا الجيل من الفنانين الكبار السابقين الذين عملوا طوال الوقت في الأغاني الشعبية والأغاني البحرية، موضحا أن الجيماز كان حالة خاصة بين معاصريه وكان يمتاز بالخلق الحسن والإخلاص في العمل وقلما تجتمع صفات حسنة في شخص ما، مثلما هو الحال مع الجيماز رحمه الله.