الحياة لا تضع في أفواهنا دائماً قطع السكّر، ولا تسكب الشهد على شفاهنا، ولا تدهن جباهنا دائماً بماء الورد والزعفران، وهي بالتأكيد لا تجعل الحنظل مذاق أيامنا دائماً، ولا تحوّل صدورنا إلى سهول ممتدة وصالحة فقط لزراعة الصبّار وقصَب الضنك،

Ad

فالحياة كما أشقتنا.. لطالما أسعدتنا، وكما أبكتنا كثيراً.. كثيراً ما أنبتت الابتسامات العذبة على شفاه قلوبنا،

اسقتنا أحياناً ماءَ كالمُهل عندما استغثنا بها، وأطعمتنا من شجر الزقوم عندما جعنا، وأحياناً أخرى ارتوينا من الماء المبارك التي جادت علينا به حتى اخضرّت أرواحنا وأطعمتنا من شجرة طوبى وظلّلتنا بظلّها.

الجاحدون فقط ينكرون نعم الحياة ويتعالون على الإقرار بها، وأولئك الذين تصبح قلوبهم غربالاً شريراً لا يحتفظ إلا بكل ما هو مؤلم للنفس ليتمكن من تشويهها،

ليس منا من لم يتجرع مرارة الحياة، حتى الأنبياء المصطفين فعلوا ذلك، وفي ذات الوقت ليس منا من لم تهبه من خيراتها وتضفي عليه من كثير نعمها،

وليس منّا من لم يعان قسوة الحياة يوما، كلٌ أُعطي على قدر إنائه من الهم والكدَر،

الحياة عادلة بقسوتها، الكل نال قسطه من قسوة الحياة وفصّلت له ألماً على قياسه، وبأشكال وصور عديدة: خذلان من صديق، طعنة غدر من حبيب، فقدان عزيز، حرمان من حاجة ملحّة، لحظة وقوع على أرض غطّاها الشوك بجسد عارٍ، غياب بوصلة الأمل فجأة من عيون قلب، الإحساس بألم لا يشعر به سوى حامله، اليقين بأن الغد مقصلة لحلم، وأن يصبح أسعد أحلامك ألا يأتي الغد... كل هذه صور لقسوة الحياة عندما تمتدّ أظافرها لتنهش جسد سكينتنا.

ولكن السؤال هو: كيف نبقي الحياة جميلة في داخلنا؟!

وأظن أننا نستطيع ذلك "بفلترتها"...

ألا نحتفظ في ألبوم ذاكرتنا بالصور التي آلمتنا يوماً، حتى لا نستعيد مشاعرنا بالألم كلما تصفحنا ذلك الألبوم، ومررنا بالصور الجميلة البهية فيه، فإذا بصورة بشعة تطل علينا فجأة لتمحو كل ما أحسسنا به من فرح قبل لحظات، لابد من التخلص سريعا من كل صورة تؤذينا وتعيدنا للحظة نتمنى أن تُنسى،

لابد من تخليص شجرة العمر من كل ورقة يابسة جافة، وإسقاطها من الغصن حتى تحتفظ أغصان العمر بمنظرها الأخضر الجميل ونضارتها، كل ورقة صفراء لا يتم انتزاعها من شجرة العمر سيمتد لونها الأصفر الباهت إلى بقية الأوراق، وسيلْتَهم نداوتها،

ليست كل لحظات الحزن التي مررنا بها تستحق إسقاطها من ألبوم ذاكرتنا، فهناك لحظات حزن تمنحنا معرفة بالحياة وبذاتنا بشكل أعمق، وتزيدنا نضجاً ووعياً بجوهرنا الجميل، هذه لحظات نحرص على الاحتفاظ بها في ذاكرتنا، إذ إنه حتى اللحظات المؤلمة لابد من فلترتها ومعرفة ما يضيؤنا منها لنُبقي عليه، وما يطفئونا لنتخلص منه، بهدف صُنع حياة تبدو لأعيننا جميلة.

تلك ليست مهمة مستحيلة، كل ما علينا فعله هو أن نستصلح ذاكرتنا، كما تُستصلح الأراضي لنزرع فيها ما ينفعنا لا ما يضرنا، وألا نتركها أرضاً يكثر فيها النبت الشيطاني بدون قصد منا أو رغماً عنا.