بين الحداثة وما بعدها... الجدل والإشكاليات

نشر في 11-12-2012 | 00:02
آخر تحديث 11-12-2012 | 00:02
No Image Caption
هل دخلنا مرحلة الحداثة حتى نتجاوزها إلى ما بعدها؟
يثور هذا السؤال، وتثور حوله كثير من الإجابات المتعارضة، بين النفي والقبول، لأن الحداثة ليست مذهبية أدبية فقط، إنها تطور مجتمعي شامل، يبدأ بالإنسان وينتهي بالأمة، فمحورها الهدم، ونقض الموروث، وإعادة بناء قلاع فكرية وثقافية من منطلقات عقلية موضوعية، تعالج أدواء الإنسان المعاصر، وتنقذ المجتمعات من صراعات إثنية وموروثات طبقية.
تعثرت الدول العربية في مسيرة التحديث، بعدما امتلكت  آمالا عريضة، وخططاً طموحة، كثير منها صيغ من منظور غربي، تجاهل الموروث الثقافي العربي، مما جعل نتيجة عملية التحديث أشبه بمرقعة الدراويش، متعددة الألوان، ولكنها ظلت هي المرقعة، وإن تغيرت نفسية مرتديها.

بالنسبة للأدب العربي، انطلق في فجر انبعاثه (مرحلة الإحياء) مستندا إلى تقاليد الشعرية العربية في أوج نضجها الفني خلال العصر الأموي والعباسي، واستطاع البارودي وشوقي وحافظ ومطران وغيرهم أن يعيدوا بهاء إبداع العربية الأول. ولكن التحدي الحضاري كان قوياً، فالنموذج الغربي حاضر بقوة، يدمي العقول العربية المبدعة، ويجعل سؤال المستقبل مطروحا بالنسبة إلينا دائما، وهو تساؤل يستدعي كيفية اللحاق بالآخر. وفي الميدان الأدبي، كانت النظريات الأدبية تتوافد إلى المجتمع الثقافي العربي؛ بحكم سفر بعض النخبة إليهم، أو حضور علمائهم ومستشرقيهم بين ظهرانينا، وقد حسم الأدب العربي هذا الأمر مبكرا، فتتابعت تجليات وتطبيقات المذهبية الأدبية الغربية في الإبداع العربي الحديث، بدءا بالرومانسية وجماعة الديوان وأبوللو، ثم الواقعية بتنوعاتها، والحداثة بألوانها، فكأن الأدب العربي الحديث يحقق ما صعب على رواد النهضة والحكومات الثورية أن يحققوه، فباتت التيارات الأدبية العالمية متحققة في الإنتاج العربي الإبداعي بشكل عام.

وقد ارتبطت أمور عدة بهذه النهضة الأدبية المعاصرة؛ فهناك معارضون كثر لهذا اللهاث المحموم من الأدباء والمبدعين العرب لما ينتجه الغرب، وهي معارضة متفاوتة، بعضها من التقليديين، وبعضها من أجيال المبدعين أنفسهم، وبعضها من أصحاب الاتجاهات الأدبية المختلفة. فقد عارض العقاد شعر المدرسة الإحيائية الحديثة، متسلحاً بما قرأه من تنظير نقدي، ونماذج إبداعية لشعراء الرومانسية الإنكليز، وكان في ذلك ينادي بالتغيير والتطور، ووقف العقاد نفسه بالمرصاد لشعراء التفعيلة، وبعض هؤلاء عارضوا شعراء الحداثة، ورفضوا قصيدة النثر.

أيضاً: فإن التأثر والنقل للتيارات الأجنبية لم يكن مواكبا لازدهار هذه التيارات في الغرب، وإنما كان تاليا لها، عندما تنتهي، وتنزوي في الأدب الغربي، فإنها تنتعش وتصبح علامة على التطور في الأدب العربي، وهذا منطقي بدرجة ما، بحكم أن النقل كان بجهود فردية وليس بمنهجية علمية، وأن كثيرا ممن تزعموا النقل عاشوا سنوات في الغرب، أو قرأوا الغرب بلغاته وهم في بلدانهم. وبين هذا وذاك، تمضي سنون وتتابع حقب، وربما آثر البعض أن يروا اكتمال التجربة والتيار غربيا قبل أن يغامر بنقله عربيا، وهذا أمر في مجمله غير مدان، فلسنا في معركة للموضة تلهث وراء الجديد، بقدر ما هي رغبة في التواصل والتعرف على ما لدى الآخر، ومن ثم محاورته بالإبداع. إن مواكبة الجديد الثقافي والإنساني ليس تهمة، فهذا شيء حتمي في العلوم الطبيعية، وهو أيضا ضروري في العلوم الإنسانية، فكيف نحاور، ونشارك الآخر دون أن نقرأه، وهل يكون الحوار نظريا وفكريا فقط؟ أم يحاور الإبداعُ الإبداعَ؟

تطور مؤسسي

على صعيد آخر، فإن التيارات الأدبية الغربية نابعة من تطور مؤسسي متعدد الروافد، من علوم إنسانية عدة، معبرة عن نفسية الإنسان الغربي، وتطور ذائقته، ولكن هذا لا يمنع من وجود قواسم مشتركة بيننا وبينهم، يمكننا أن نلتقي حولها، إبداعا، ونقدا، وحوارا، في زمن العولمة، وتقارب الأمكنة، وانزواء الحدود الجغرافية، وتلاشي الحدود السياسية، وشيوع الفضاءات الإلكترونية.

يصدق هذا مع الحداثة، التي ازدهرت عربيا، بعد عقود من انتهائها غربيا. لم تستقبل التربة العربية الحداثة بيسر، بل قاومتها بداية ثم قرأتها بتفاعل، ومن ثم أبدعت، وتجاوبت العقول والأقلام. وكانت الحداثة العربية ذات نكهة عربية خاصة، وإن عبرت عن فجوات في التلقي والتواصل والتمدد.

أيضاً: يمكن القول إن التجربة الأدبية العربية الحديثة اكتست واكتسبت نكهات بيئتنا، وتطعمت بجواهر ثقافتنا، وأعادت إنتاجها بإبداعات جديدة، كما قرأت الواقع العربي، والذهنية العربية بشكل عقلاني ووجداني، معبرة عن هموم الإنسان العربي المعاصر؛ إحباطاته، آلامه، وأحلامه. وشذّ منها نصوص متناثرة، كانت فيها الروح الأجنبية (الغربية) بحكم التأثر بالترجمة أو الاقتباس.

أيضا: فإن التأثر بالتيارات الأدبية العالمية، والتجاوب معها محليا وإقليميا، كان نابعا من الرغبة في مواكبة التطور الإبداعي للآخر، وهي مواكبة تشبه الحوار وتنأى عن التبعية والذوبان. صحيح أن بعض من نقلوا كانوا يستهدفون النقل والتباهي بقراءة الأجنبي ومتابعة إنتاجه بما يشبه عقدة الخواجة، ولكن هؤلاء أسدوا خدمات عظيمة للأدباء العرب، الذين وعوا المترجَم، وتشربوا روحه، فتغيرت حساسيتهم، وطرحوا الكثير من الأسئلة، وغاصوا في الجديد من الحقول. وهذا أدى في نهاية الأمر إلى أن يصبح الأدب العربي الحديث والمعاصر والجديد: محاورا الأدب العالمي، بشخصية أدبية متميزة.

إذاً، تطور الأدب العربي، وواكب الأدب العالمي، ولم يقتصر هذا على الشعر، بل امتد إلى سائر الفنون، ومنها فنّا الشعر والرواية اللذان نشآ عربيا بشكلانية غربية واضحة، ثم تمددا، حتى ترسخا، لتكون نصوصهما ذات تميز، فسردت البيئة العربية، وقدمت الإنسان العربي: شخصية، وثقافة، وهموما، وأحلاما، وإحباطات، وعبرت فيما عبرت عن حساسية الأديب العربي الجديدة التي تشربها من رؤى الحداثة، ومن ثم تطورت الحساسية، لتنتقل إلى ما بعد الحداثة، وهي نقلة أقل ما يقال فيها: إنها تعيد قراءة الحداثة العربية المعاصرة، وتطرح الأسئلة حول مشاريعها وخططها، ونتائجها، من خلال ما يرصده الأديب في وطنه؛ في أصعدة عدة، أولها ذاته، وآخرها هويته.

back to top