أرواح قابلة للاشتعال
لطالما سألت نفسي عن سر القصة القصيرة وماهية جاذبيتها الكتابية لأغلبية الكتاب سواء من الخليجيين أو العرب، هل لأنها قصيرة فتبدو كأنها سهلة وميسرة ولا تحتاج إلى زمن طويل لصياغتها، أم لأن مواضيعها من الكثرة والوفرة فيسهل التقاطها وصيدها من كل الحواس المتيقظة والمترصدة لها. وكلما حاولت أن أكتب قصة قصيرة لاحت لي تباشيرها أجدها قد تملصت مني والتبست علي في هيئتها التي طالت وتمددت واتسعت مضامينها حتى تشكلت في روح رواية، لهذا بات لدي يقين ثابت أن كل قصة قصيرة ما هي إلا مشروع رواية غير مكتمل، ولهذا السبب ليس لدي قصص قصيرة إلى الآن مع كل ما كتبته.
المشكلة هذه ترافقني حتى مع نصوص الغير، فعندما أقرأ أي قصة قصيرة أجدني أبحث عن إمكانية خلق رواية منها، وبصراحة أجد أن الكثير منها صالح كنواة لرواية مكتملة. في هذا الأسبوع قرأت كتابين لقصص قصيرة كتبها عبدالعزيز الموسوي وهو قاص بحريني له مجموعة باسم «أرواح قابلة للاشتعال»، وأظنها هي مجموعته الأولى الصادرة عام 2008، والثانية جاءت باسم «طلقات» التي صدرت في عام 2010، وبرغم مني وجدت أن قصص المجموعتين لها روح مكتملة وملتفة عند هذه النقطة التي ما منها رجوع حيث الزمن انتهى وتوقف فيها، مثل ساعة وقفت بطاريتها وعقاربها جمدت عند توقيت معين ولم تتزحزح بعده. في المجموعة الأولى وهي أرواح قابلة للاشتعال والتي اتسمت بإنسانية رفيعة وعميقة وحادة، نجد قصصها كلها تصور عوالم لخيبات إنسانية من القاع حزينة، وأرواح أحلامها مجهضة كأن لا حق لها في الحياة. قصص تدور حول عالم المهمشين والحساسين والمفتقدين لكرامة إنسانيتهم ومسحوقين في تروس آلة جهنمية لا ترحم. هذه القصص تبهت وتنث على روح قارئها ببؤسها وبشقائها وبانعدام الأمل، ومع ذلك فهي قصص شفافة رهيفة موجعة للقلب وذات حضور كثيف خارق، فالكثير من مشاهدها تعلق في الذاكرة وتلتصق فيها مثل حلزون أبدي، وفي رأي أن الكتابة القوية هي التي تمتلك هذا الحضور الدائم لها، بحيث تبقى حية في ذاكرة القارئ وملتصقة فيها حتى عندما ينتهي من قراءتها، تبقى نسخة منها متروكة فيه، وهذا ما فعلته قصص هذه المجموعة فقد بقيت بعض من مشاهدها تسير معي لتصحو وتنام في. واللافت للإحساس في هذه المجموعة هو هذه العيون اللاقطة لكل حركة كانت، من خارج أو من داخل النص المكثف في جمل ذات بصيرة ثاقبة تلتقط جوهر الحدث في جملة وتدل عليه والذي هو لشخصيات مأزومة تعاني حياة لا تعنيها، وهي في أغلبها جمل شعرية مقطرة من لب القصة. أغلب القصص تتطرق إلى حكايات غريبة مثل «خادم الدود» التي بطلها هو الموت ذاته، وأيضا «عينة» التي تتناول براز بطل القصة، وقصة «مؤهلات» التي تبين أهمية المؤخرة النسائية في التقدم للوظيفة، فهو يتلاعب بالكلام الذي يحمل أكثر من معنى حين يقول: لم يكذب عليك المدير أبدا، الترقيات مؤخرة فعلا. وهناك قصص من ذاكرة الطفولة تحمل تفاسير لمعاني أيضا غريبة مثل قصة» لعقة الشيطان»، وقصة «نحت أقدام جدتي»، وأيضا قصة «أم الديفان» و»عقاب البقرة». وتبقى تلك المشاهد القوية التي تلتصق في الذاكرة مثل قصة «ضيفة الله» المقعدة وطريقة تصوير الكاتب لحركتها، خصوصا عندما حاولت الوقوف ليلتقطوا لها صورة فكان هذا المشهد: «وقفت بعكازيها خلف النافذة التي تتدلى منها ستارة كخلفية مشجرة، ألقت عكازيها، وابتسمت على خوف من السقوط، وتم لها ما أرادت صورة أشبه بدمية سُندت على حائط وتُركت دون استواء». وأيضا المشهد الرهيب لاحتراق مريم فهو مشهد سينمائي بجدارة يصورها منذ اللحظات الأولى لاتخاذها قرار الانتحار وحتى نراها تتخبط في الحوش والحجرات والنار ملتهبة بها، ويصفها بهذه الجملة العجيبة: أي مصيبة هذه التي لا تطفئها سوى النار. تميزت هذه المجموعة بجمل ذات تعابير ملتفة مثل: «مجالس العزاء خطة ذكية لتشتيت الحزن عندما يلتزم الآخرون بمسارها الصحيح»، وأيضا جملة: «حين تكون القادمة بمنزلة بغتة لا أستطيع إلا أن أكون دهشة». انها مجموعة أرواح قابلة للاشتعال التي أوقفتني عن تخيلها مواضيع قابلة أن تكون لبا لرواية، انها بالفعل قصص قصيرة مكتنزة وملتفة تماما على ذاتها.