«يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم... رواية لم تأخذ حقها في النقد
صدرت حديثاً طبعة جديدة من كتاب «يوميات نائب في الأرياف» للكاتب المصري توفيق الحكيم، ضمن سلسلة «كتاب» التي تصدر شهرياً مع مجلة «الدوحة».
قدّم للكتاب أحمد حسن عوض، وتعود رواية الحكيم إلى الربع الثاني من القرن العشرين وتسرد يوميات وكيل نيابة في الريف المصري.
قدّم للكتاب أحمد حسن عوض، وتعود رواية الحكيم إلى الربع الثاني من القرن العشرين وتسرد يوميات وكيل نيابة في الريف المصري.
يقدم توفيق الحكيم من خلال روايته «يوميات نائب في الأرياف» نقداً ساخراً للأوضاع الاجتماعية السائدة في الريف خلال الربع الثاني من القرن العشرين. وتتمحور الأحداث حول التحقيق في قضية إطلاق نار على أحد الفلاحين، يصف خلالها الكاتب أوضاع الريف والمستشفيات ودور العمد والفساد في القضاء وفي جهاز الشرطة.في تقديمه للكتاب يقول الحكيم: «لماذا أدون حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا، إن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونها، إنما يحياها. إني أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة. إنها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كل يوم، ولا أستطيع أن أحادثها على انفراد. هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها، وعن نفسي، وعن الكائنات جميعاً. أيتها الصفحات التي لن تنشر، ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق».
في مقدمته للكتاب يرى أحمد حسن عوض أن هذه الرواية تعتبر نموذجاً إبداعياً دالاً ينفتح على الحياة الاجتماعية والسياسية في ريف مصر، وتراعي مقتضيات الفن النوعية ويوظفها برهافة بالغة في الآن ذاته. وهي رواية يجمع أغلب النقاد على تفردها رغم أنها لم تأخذ حقها من الدرس النقدي والتحليل المفصل.ويعتقد عوض أن سر جاذبية «يوميات نائب في الأرياف» يكمن في تمردها على نسق التصنيف النقدي الساكن، إذ تراوح بين ثلاثة من الأجناس السردية، وهي نسق اليوميات المتكئ على بنية التأريخ القصير المنضبط، التي تتوشج مع زمن وقوع الأحداث في 12 يوماً من 11 أكتوبر وحتى 22 أكتوبر، ونسق السيرة الذاتية الذي ينهض على وحدة الهوية بين الراوي الذي يسرد بضمير المتكلم وشخصية وكيل النيابة التي هي في حقيقة الأمر شخصية المؤلف الفعلي توفيق الحكيم، ما يؤكد حيوية التجربة ودفء الواقع الروائي المردوف بفاعلية التخييل، والنسق الثالث هو نسق الرواية الواقعية التي تعنى برسم ملامح الشخصيات وتجيد نسج التفاصيل المترابطة وفضاءات الصراع في عالم الريف.نفس اجتماعي ساخر يلفت عوض إلى أن الحكيم استطاع أن يفعِّل بنية التشويق عبر البدء بسرد الجريمة مع أولى صفحات الرواية «مقتل قمر الدولة علوان»، ويأتي التشويق عن فاعل الجريمة متواشجاً مع نفس اجتماعي ساخر يغوص في نفسيات الشخصيات ويكاد يحفظ ردود أفعالها عن ظهر قلب، ومتآزراً في الآن ذاته مع بنية التشبيه البلاغية التي أكسبت السرد مذاقاً فنياً خاصاً على مستويي السخرية والانفعالات الوجدانية، إزاء الفتاة الجميلة ريم، رمز الجمال البراءة في عالم القبح الجريمة، وهي تقنيات إبداعية نستشرف من خلالها فضاءات مغايرة للفضاءات التي رأيناها مع الحكيم في القاهرة عبر «عودة الروح» في باريس عبر «عصفور من الشرق».ويتضمن الكتاب تعليقاً عنه في صحيفة «اللوموند» الفرنسية يعود إلى عام 1975 جاء فيه: «في توفيق الحكيم يتغلب الكاتب القصصي الشاهد قوي الملاحظة، خفيف الروح، مع أقدم مدينة قامت على الزراعة. فالكتاب هو قبل كل شيء وثيقة «انتروبولوجية» عظيمة، وصورة من أكثر الصور أمانة، وأبلغها تأثيراً، لمجتمع القرية في مصر، بسيئاته ومباهجه، بحماقاته وروح التكافل التي تثير الإعجاب فيه، خلافاته وتماسكه، وإخلاصه لكل هذه السمات فيه منذ زمن بعيد. ولأن توفيق الحكيم متفائل في سخريته، ولأن مصريته من العمق بحيث يمكنه أن يجد في أقصى صور الشقاء أسباباً للضحك، فإن يومياته هذه يمكن أن تعتبر من الأدب الفكاهي الممتاز. إنها تذكرنا بأعمال تشيكوف وغوغول. تحقيقاته الجنائية من قرية إلى قرية مزيج من النكتة وتقطيب الوجه، وأحياناً ضربات العصا، روح الفكاهة طبع أصيل، التعليق اللاذع أسرع من رد الطرف. في أغوار شقائهم يبدأ أولئك الناس البسطاء بالضحك من معذبيهم، وقبل أن يتناولوا الحبل الذي سيشنقونهم به، فإذا ضحكنا معهم ومع المؤلف وطوينا الكتاب، فإننا نأخذ نستشعر شحنة الغضب والرفض التي ضمنها النائب توفيق وثيقته.عالم غارق في الوحلالكتاب مؤلم بما يذكره من صراحة وما يترك لك أن تفهمه. كذلك المقدمة التي كتبها المؤلف حيث يقول إن شيئاً لم يتغير بعد لدرجة تذكر في ذلك العالم الغارق في الوحل، حتى الاختناق. والكتاب مهم جداً لأن الكثير في مصر، وعن الحقيقة، تجده في هذه اليوميات الحية أكثر بكثير مما قد تجده في كتب سياسية تصدر عن ذلك الشعب الفريد في وادي النيل، والذي يضحك من مصائبه ولكنه في النهاية يجد الوسيلة التي يسترد لها الحياة.وحسب أحمد حسن عوض، فإن توفيق الحكيم هو العلم الثالث من أعلام ثقافتنا العربية بعد العقاد وطه حسين, فقد أثرى هذا الثالوث حياتنا الثقافية الفكرية والأدبية بإبداع بالغ الغنى، متعدد، خصب العطاءات، ومتنوع الاتجاهات. غير أن ما يميز الحكيم، الذي تمر هذه الأيام ذكرى رحيله الخامسة والعشرون، عن صنويه الكبيرين أنه كان الأكثر تمثلاً لروح الفنان المنطلقة التي لا تبالي بالقيود والأسرع استجابة لأنماط الفن المختلفة والأعمق تفاعلاً مع أجناسه الحديثة بتجلياتها اللغوية والسردية والمسرحية والتشكيلية والموسيقية، بعد أن شاءت له الأقدار أن يخالط أهل الفن في مصر في شبابه المبكر، ثم سافر إلى فرنسا ليرتشف عصارة الفن الرائق وينهل من مذاقاته الثرية، ويرتوي بها حتى الثمالة. بينما سافر العقاد إلى أوروبا وكان تمثله لحضارتها عن طريق الاطلاع وقراءة الكتب التي كانت تأتيه من الخارج، بينما لم يستطع طه حسين بسبب قيوده الخاصة وبنيته الأزهرية أن ينفعل باتجاهات الفن المتنوعة في أوروبا كما انفعل بها الحكيم.يتميَّز الحكيم أيضاً عن أبناء جيله من الأدباء والمفكرين أنه لم يبن شهرته الأدبية على الانضمام إلى الأحزاب السياسية المصرية، بل يكاد يكون الوحيد إلى جانب يحيى حقي وحسين فوزي الذي ظل محافظاً على موقع الفنان والمفكر المستقل بعيداً عن ألاعيب السياسة وتقلباتها وصراعاتها. ولعل استغراق الحكيم في محبة الفن على اختلاف تجلياته ووسائطه النوعية، فضلاً عن عدم خوضه غمار الحياة المصرية، ودفاعه عن حرية الفنان والمفكر وضميره الفردي الذي ينبغي أن يظل بمنأى عن هيمنة أية سلطات، هو ما يعد أبرز العوامل التي ألصقت به لقبه الشهير «أديب البرج العاجي».