اندلعت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، محدثة تبدلات جذرية في الحياة الاجتماعية والسياسية على حد سواء. في تلك السنة عينها عادت آذر نفيسي، الكاتبة والأستاذة الجامعية، إلى إيران. نفيسي ابنة أحمد نفيسي، عمدة طهران السابق. وقد تلقت تعليمها في سويسرا لتحصل على شهادة دكتوراه من جامعة أوكلاهوما. رجعت نفيسي إلى إيران حيث درّست اللغة الإنكليزية في جامعة طهران. وفيما حطت الثورة الإسلامية وزرها في إيران، سالبة المرأة من حقوق اعتبرتها نفيسي أمراً مسلماً به، صعب عليها مواصلة التعليم. فقررت دعوة مجموعة من طالباتها إلى منزلها صباح كل خميس لمناقشة الأعمال الأدبية.

Ad

خلال حلقات المناقشة تلك، هربت مع طالباتها من القمع الإيراني إلى عالم الروايات والخيال، حتى إنهن طالعنا قصصاً محظورة، منها لوليتا لنابوكوف. عام 1997، قررت نفيسي أنها ما عادت تستطيع العيش في القمع والظلم، فانتقلت إلى الولايات المتحدة. وهناك وضعت كتاباً ضمنته معاناتها في طهران وتجربتها مع طالباتها تلك وعنونته Reading Lolita in Tehran (قراءة لوليتا في طهران). تناولت نفيسي لوليتا من منظار إيراني، معتبرة إياها أفضل الروايات التي تنطبق على واقع الحياة في الجمهورية الإسلامية. إليكم مقتطفاً من هذا الكتاب الذي ظل على لائحة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعاً طوال أكثر من مئة أسبوع.

قررت في خريف عام 1995، بعدما استقلت من آخر منصب أكاديمي أشغله، أن أستسلم لأهوائي وأحقق أحد أحلامي. فاخترت سبعاً من أفضل تلميذاتي وأكثرهن التزاماً ودعوتهن إلى منزلي كل صباح يوم خميس لنناقش أعمالاً أدبية. اكتفيت بدعوة النساء من تلميذاتي لأن تعليم صف مختلط في منزلي خطر جداً، وإن كنا نناقش أعمالاً خيالية لا ضرر فيها. لكن أحد الطلاب الشباب العنيدين تمسك بحقوقه، مع أننا منعناه من حضور صفنا. وهكذا صار نيما يقرأ المواد المختارة ويأتي في أيام محددة إلى منزلي لنناقش الكتب التي نقرأها.

كنت أمازح طلابي دوماً وأذكرهم برواية موريال سبارك The Prime of Miss Jean Brodie وأسألهم: مَن منكم سيخونني في النهاية؟ فأنا بطبيعتي إنسانة متشائمة وكنت واثقة من أن واحدًا منهم على الأقل سينقلب ضدي. أجابتني نسرين مرة بمكر: «أنت أخبرتنا أننا في خلاصة الأمر نخون أنفسنا ونكون بمثابة يهوذا لمسيحنا». وأشارت مانا إلى أنني لست الآنسة برودي وأنهم هم ما هم عليه. كذلك ذكرتني بتحذير أحب تكراره دوماً: لا تقلل البتة من شأن عمل خيالي وتحاول جعله نسخة طبق الأصل عن الواقع. فما نبحث عنه في الخيال ليس الحقيقة بقد ما هو صورة لما نشعر أنه الحقيقة. وإن خالفت نصيحتي هذه وأردت أن أختار عملاً خيالياً يعكس حقاً حياتنا في جمهورية إيران الإسلامية لانتقيتThe Prime of Miss Jean Brodie أو 1984 أو ربما Invitation to a Beheading لنابوكوف أو حتى روايته لوليتا.

الليلة الأخيرة

بعد بضع سنوات من بدء حلقاتنا الدراسية صباح يوم الخميس، كنت في الليلة الأخيرة في طهران. ضج منزلي بعدد من الأصدقاء والطلاب الذين قدِموا ليودعوني ويساعدوني في توضيب حقائبي. وعندما جردنا المنزل من كل محتوياته، وعندما اختفت الأغراض داخل ثماني حقائب رمادية، كما لو أنها جني ماكر تبخر داخل مصباحه، اتكأنا أنا وطالباتي على أحد جدران غرفة الطعام البيضاء العارية والتقطتنا صورتان.

وضعت هاتين الصورتين أمامي وأنا أخط هذه الكلمات. في الأولى، وقفت سبع نساء أمام جدار أبيض. كن يلبسن وفق التقاليد المتبعة في إيران عباءات سوداء وأحجبة تغطي كامل جسهمن باستثناء وجوههن وأيديهن. وفي الثانية كانت المجموعة ذاتها تقف بالطريقة عينها أمام الجدار ذاته. لكنهن هذه المرة خلعن العباءة والحجاب. كانت الألوان الزاهية تميز إحداهن عن الأخرى. وهكذا انفردت كل منهن بلون ونمط لباس خاصين بها، بلون شعرها وطوله، حتى إن الاثنتين اللتين لم تخلعا الحجاب بدتا مختلفتين.

الأولى إلى أقصى اليمين في الصورة الثانية شاعرتنا مانا، التي ارتدت قميصاً أبيض وسروال جينز. اعتادت مانا نسج القصائد من أمور غالباً ما تجاهلها الناس. لا تعكس الصورة ذلك العمق المميز في عيني مانا الداكنتين، عمق يُظهر طبيعتها المنطوية والمائلة إلى العزلة.

قرب مانا وقفت مهشد التي تعارض وشاحها الأسود الطويل رقة معالمها وابتسامتها المتحفظة. تتمتع مهشد بمواهب كثيرة، إلا أنها تتميز بنوع من الأنفة، فاعتدنا مناداتها بـ{سيدتي». كانت نسرين تردد دوماً أننا لم نحدد طبيعة مهشد فحسب، بل تمكنا من إضافة بعد آخر إلى معنى كلمة «سيدة». مهشد حساسة جداً. وقد شبهتها ياسي ذات مرة بالبورسلين السريع العطب. لذلك تبدو هشة لكل مَن لا يعرفها جيداً. ولكن ويل لمن يهينها. وتابعت ياسي بحسن نية وصف نفسها، قائلة إنها أشبه بالبلاستيك القديم القوي الذي لا ينكسر مهما قسونا عليه.

كانت ياسي الصغرى في مجموعتنا. تبدو في الصورة مرتدية الأصفر ومنحنية نحو الأمام وقد علت محياها ابتسامة عريضة. اعتدنا تسميتها مازحين «مهرجتنا». ياسي خجولة بطبيعتها، لكن بعض الأمور تثيرها وتحملها على التخلي عن حيائها. كانت تتكلم بنبرة صوت تخالها معها أنها تهزأ وتشكك بنفسها قبل الآخرين.

أنا مَن ترتدي البني وتقف إلى جانب ياسي واضعة إحدى ذراعيها حول كتفها. خلفي انتصبت عظيم، إحدى أطول طالباتي. كان شعرها الطويل الأشقر ينسدل على قميصها الوردي. وكانت تضحك شأننا جميعاً. إلا أن ابتسامة عظيم لا تبدو ابتسامة، بل أشبه بمقدمة لضحك متوتر لا يمكن ضبطه. كانت دائمة الاندفاع حتى في تلك الأوقات الحزينة حين كانت تسرد لنا آخر مشاكلها مع زوجها. لم تتخلَّ عظيم مطلقاً عن جرأتها وصرامتها. وقد أحبت الصدمة التي تولدها تصرفاتها وتعليقاتها في نفوس الآخرين، حتى إنها غالباً ما تصادمت مع مهشد ومانا. لذلك أطلقنا عليها لقب «الجامحة».

على جانبي الآخر وقفت ميترا الأكثر هدوءاً بيننا. وعلى غرار الألوان الهادئة الزاهية في لوحاتها، كانت تتراجع وتذوب ضمن المجموعة. وكان بإمكانك وصف جمالها بالعادي لولا غمازتان رائعتان لم تتردد في استخدامهما للتلاعب بكثير من الضحايا غير الحذرين وحملهم على الخضوع لمشيئتها.

كانت سناز، التي تعرضت لضغوط كبيرة من المجتمع والعائلة فتأرجحت بين رغبتها في الاستقلال وحاجتها إلى إرضاء الآخرين، تمسك بيد ميترا. كنا نضحك كلنا. أما شريكنا الخفي ومصورنا، فكان نيما، زوج مانا وناقدي الأدبي الحقيقي، لو أنه تحلى فحسب بالعزم والمثابرة لينهي المقالات الرائعة التي يبدأ كتابتها.

نسرين

لكن إحدى طالباتي لم تكن بيننا. لم تظهر نسرين في الصورتين لأنها لم تكمل حتى النهاية. غير أن روايتي لا تكتمل من دون من لم يستطيعوا أو لم يريدوا الاستمرار معنا. رحلوا هم، إلا أن غيابهم ظل واضحاً، كما الألم الحاد الذي لا تعرف له مصدراً محسوساً. هذه طهران في نظري، فغيابها كان أكثر واقعية من وجودها.

عندما استرجعت صورة نسرين في ذهني، تبدو بعيدة غير واضحة، وكأن الغشاوة تعلوها. عدت إلى الصورة التي التقطها طلابي على مر السنين. فلاحظت أن نسرين تظهر في عدد منها، إلا أنها تختبئ دوماً وراء شيء أو شخص أو شجرة. كنت في أحدى هذه الصور أقف مع ثمانية من طلابي في حديقة صغيرة قبالة مبنى الكلية، تلك الحديقة التي شهدت الكثير من حالات الوداع على مر السنين. وراءنا انتصبت شجرة صفصاف وارفة الظل. كنا نضحك، وفي إحدى الزوايا ومن وراء الطالب الأطول أطلت نسرين، كما لو أنها نتوء صغير يتطفل بمكر على مشهد لم يُدعَ إليه. في صورة أخرى، بالكاد استطعت تمييز وجهها وفي تلك الفسحة الصغيرة بين كتفي فتاتين أخريين. في هذه الصورة بدت هائمة في عالم آخر. كانت عابسة كما لو أنها لم تدرك أن أحداً يلتقط لها صورة.

كيف أصف نسرين؟ دعوتها ذات مرة هر تشيشاير، لأنها ظهرت فجأة ثم اختفت في مراحل عدة من حياتي الأكاديمية. لا يمكنني حقاً وصفها. فهي فريدة من نوعها. كل ما يمكنني قوله إن نسرين هي نسرين.

طوال سنتين تقريباً كانت هذه المجموعة تأتي صباح كل يوم خميس إلى منزلي، سواء كانت الشمس مشرقة ساطعة أو المطر منهمرًا بغزارة. ولم أستطع مطلقاً تخطي تلك الصدمة التي اعترتني كلما رأيت طالباتي يخلعن عباءاتهن وأحجبتهن الإلزامية ليكشفن عن ألوان مختلفة ومشرقة. عندما كانت طالباتي يدخلن تلك الغرفة، لم ينتزعن عباءاتهن وأحجبتهن فحسب، بل كانت كل منهن تتخذ تدريجاً شكلاً وإطاراً محددين، متحولة إلى ذاتها الفريدة. وهكذا صار عالمنا في غرفة الجلوس تلك بنافذتها المطلة على جبال ألبرز الحبيبة ملجأنا، كوننا المستقل الساخر بحقيقة تلك الوجوه الخجولة المحاطة بالأحجبة في المدينة المترامية الأطراف تحتنا.

دارت مناقشاتنا حول العلاقة بين الواقع والخيال. قرأنا أعمالاً أدبية فارسية، مثل قصص سيدة الخيال الفارسي، شهرزاد، من كتاب «ألف ليلة وليلة»، فضلاً عن الكتب الغربية الكلاسيكية، مثلPride and Prejudice، Madame Bovary، Daisy Miller، The Dean's December، وبالتأكيد «لوليتا». وفيما أعدد هذه الكتب الآن، بدأت الذكريات تتأرجح مع الرياح لتعكر صفو هذا اليوم الخريفي في غرفة أخرى في بلد آخر.

أجلس الآن في هذا العالم الآخر، الذي غالباً ما ظهر فجأة في مناقشاتنا، وأتخيل نفسي وطالباتي، أو فتياتي كما صرت أدعوهن، ونحن نقرأ «لوليتا» في غرفة تبدو مشمسة في طهران. ولكن كما قال همبرت، الشاعر/ المجرم في «لوليتا»، أطلب منك أيها القارئ أن تتخيلنا لأن لا وجود لنا إن لم تفعل ذلك. تجاهل طغيان الزمن والسياسة، وتخيلنا كما لم نتجرأ نحن أحياناً على تخيل أنفسنا. تخيلنا في تلك الدقائق الخاصة السرية، في لحظات الحياة العادية على نحو يفوق الوصف. تخيلنا ونحن نصغي إلى الموسيقى، نقع في الحب، نسير تحت الأشجار الوارفة، أو نقرأ «لوليتا في طهران». ثم تخيلنا وقد صودر ذلك كله منا، وقد أنتزع منا عنوة.

نابوكوف

أكتب عن نابوكوف اليوم لأحيي ذكرى مطالعتنا نابوكوف في طهران على رغم الظروف المعاكسة كلها. من بين الروايات كافة أختار القصة التي درستها أخيراً، تلك القصة التي ترتبط بكثير من الذكريات. أريد أن أكتب عن «لوليتا». ولكن لا يمكنني اليوم الكتابة عنها من دون الكتابة عن طهران، وبذلك تدور هذه الرواية حول لوليتا في طهران، حول كيف صبغت لوليتا طهران بلون مختلف، كيف ساهمت طهران في إعادة تعريف رواية نابوكوف، محولة إياها إلى لوليتا أخرى، لوليتا خاصة بنا.

في أحد أيام الخميس في مطلع شهر سبتمبر، تجمعنا للمرة الأولى في غرفة الجلوس في منزلي. ها هن آتيات مجدداً. أسمع أولاً رنين الجرس يليه صمت قصير سرعان ما يبدده صوت الباب الخارجي المطل على الشارع وهو يقفل. ثم تعلو أصوات الخطوات التي ترتقي السلالم الملتفة وتتخطى شقة والدتي. وفيما أتجه نحو باب البيت، ألمح جزءاً من السماء في النافذة الجانبية. ما إن تتبلغ كل منهن الباب حتى تخلع عباءتها وحجابها وتهز أحياناً رأسها يميناً ويساراً. ثم تتوقف قليلاً قبل دخول الغرفة. ولكن ما عادت الغرفة موجودة ولم يتبقَّ منها إلى فراغ الذكريات الساخر.