كثيرون هم الكتّاب والمفكرون والأدباء والمجرّبون لمكابدات الشكّ واليقين في رحلة الحياة، غير أن لمصطفى محمود جاذبيته الخاصة في الكتابة والبوح والتأمل ولمّ شتات الفكر والروح. هو ليس بالأديب لأن للأديب أدواته وسمته ومراوغاته، وليس بالمفكر لأن للمفكر منهجيته ونظرياته والتفافاته المعقدة، وليس هو بمعلّم في الروحانيات لأن المعلمين في هذا الحقل بات لهم معاهد ومؤسسات ربحية، وانشغلوا بحسابات الربح والخسارة أكثر من أي شيء آخر!
مصطفى محمود توليفة خاصة لا تشبه أحداً. ولعل سره يكمن في أنه يغرف من ذاته الجوانية، يتأمل ويحلل ويبوح وكأنه يسامر صديقاً في جلسة حميمة تحفها الأضواء الخافتة، فتخرج الكلمات مهموسة رطبة تتسلق سلالم الوقت بتؤدة ودون جلبة. لم يكن مصطفى محمود واعظاً، لأن الوعاظ هذه الأيام فيهم غلظة وتقحّم ممجوج، ولم يكن داعية لأن للدعاة في عصرنا مطامح ومصالح ولهاثاً وراء الأضواء والمنصات والشاشات العريضة. كان –في تعريف موجز- مهموماً بأسئلة الإنسان البسيط وحيرته وشكوكه وبحثه الدائب عن مرفأ ويقين. ولكنه وهو الساقط في هذا الوجود الملغز لا ينفك يعيد ترتيب الأجزاء والإشارات ونثار الكون، في محاولة لرسم سلم يصعد نحو النوافذ المضيئة.وهكذا توالت كتبه الصغيرة الرقيقة، وبلغة أليفة دانية تنسرب كالماء. فكأن كتبه ولغته تشبه جرمه الصغير المتواضع، وتشبه شروده وسرحانه الدائم، وتشبه صوته المتغرغر المتئد حين يخاطب مشاهديه عبر برنامجه بالأسود والأبيض (العلم والإيمان)، وكأنه لا يخاطبهم! وتشبه في النهاية سيرته ورحلة حياته المتذبذبة الكادحة.رغم الاختلاف أو الاتفاق على مصطفى محمود تظل كتبه من الكتب التي لا ينفك أحدنا يعود إليها أو إلى بعض شواردها بين الحين والآخر. وتظل في قطعها الصغير وخفة حملها من الكتب الدانية التي عادة ما تحتل من الرفوف أقربها إلى التناول حين الحاجة. هذه الأيام الأخيرة المباركة من شهر رمضان قادتني إلى إعادة تصفح كتابه (رأيت الله)، فوجدت في فهرسه بعض الإشارات إلى مقالات بعينها كانت قد استوقفتني سابقاً. وموضوع الكتاب في مجمله مستلهَم من قصاصات تركها أحد أئمة التصوف، وهو محمد بن الحسن النفّري، الذي عاش في القرن الرابع الهجري، فأعاد مصطفى محمود صياغتها وتقديمها دون أن يغادرها لطفها وروحانيتها:"يقول الله للعارف: ألقِ عنك كل ما بدا من جواذب الإغراء... اخرج من علمك وعملك ومعرفتك وصفتك ونفسك واسمك... اخرج من الحرف وما يخبر عنه الحرف... وألقِ العبارة وراء ظهرك وألقِ المعنى وراء العبارة وألقِ الوجد وراء المعنى... وادخل إليَّ وحدك ترني وحدي"."إذا ضقتَ ذرعاً بدواعي نفسك فاسكن إلى زوجك، فإن ضقتَ فإلى أهل علمك وصنعتك، فإن ضقتَ فإلى أهل معرفتك (أهل الله)، فإن ضقتَ فسر في الأرض، فإن ضقتَ فالزم بابي، فإن ضقتَ فيه فاصبر، فإن ضقتَ فيه فاصبر، فإن ضقتَ فيه فاصبر... ينفتح لك نوره ولا تخرج عنه على ضيق... وصابر عليه وانتظر"."ما قاله الله لعبده: إن لي عباداً صامتين رأوا جلالي فلا يستطيعون أن يكلموه، ورأوا بهائي فلا يستطيعون أن يسبحوه، فلا يزالون صامتين حتى آتيهم فأخرجهم من مقام صمتهم إليّ. اصمت لي ما استطعتَ تكن عبدي الصامت. عبدي الصامت أتلقاه قبل موقفه وأشيعه إلى داره. وهو أول من أدعوه إذا جئت"."من كان يعمل للثواب فتر بدخول التمني، ومن كان يعمل خوفاً من العقاب فتر بحسن الظن، ومن كان يعمل لوجه الله لا يفتر".
توابل - ثقافات
سرّ مصطفى محمود
14-08-2012