ليست المعلومات المتضاربة بخصوص صناع الفيلم فقط هي ما يعزز حديث المؤامرة، لكن الطريقة التي دخل بها الفيلم إلى مسرح الأحداث أيضاً تثير المزيد من الشكوك؛ إذ يقال إنه أُنتج في صيف العام الماضي 2011، وعُرض قبل ثلاثة شهور، ولم يشعر به أحد، إلى أن تم عرض مقطع منه على مواقع عربية «مدبلجاً» بالعامية المصرية، لتندلع نيران الاحتجاج والغضب.

Ad

لا يمكن بالطبع الكتابة عن الفيلم المسيء إلى الرسول الكريم من دون إدانته وتجريمه وتحقيره من جهة، والتأكيد، في الوقت نفسه، على رفض ردود الفعل عليه، التي اتخذت مساراً عنيفاً، وتضمنت القتل والحرق والنهب، من جهة أخرى.

سيكون من الضروري أيضاً القول إن ردود الفعل غير العقلانية ساعدت صناع الفيلم المأفون على تحقيق مآربهم، وإن تجاهل الفيلم، أو انتقاده، أو مقاضاة صانعيه، أو التظاهر السلمي ضده، من دون تورط في قتل أو تخريب، كان أجدى وأنفع.

سيمكن أيضاً الإشارة في هذا الصدد إلى أن فتوى إهدار دم سلمان رشدي هي التي روجت لكتاب "آيات شيطانية" وساعدت كاتبه المغمور، آنذاك، على تحقيق شهرة لم يكن يحلم بها، وأن الاحتجاجات على الرسوم الدنماركية المسيئة هي التي روجت لها، وجعلتها تصل إلى أنظار ملايين المسلمين وغيرهم في بقاع الأرض كلها، بدلاً من أن تظل مهجورة لا يراها سوى بضعة آلاف من القراء الدنماركيين.

من المفيد أيضاً محاولة تحليل دوافع بعض الشبان "الغيورين المتحمسين" الذين حاصروا السفارات واقتحموها أو حاولوا اقتحامها في أكثر من دولة عربية، وما إذا كانوا حقاً قد خرجوا للتعبير عن غضبهم مما لحق بالرسول الكريم من إساءة أم لأسباب أخرى؟

من المفيد القول إن بعضهم قام بـ"نهب" محتويات السفارات التي تم اقتحامها وليس تخريبها فقط، أو القول إن بعضهم "محترف تظاهر وشغب"، أو إن عدداً منهم يهدف إلى "الضغط على السلطة وتحقيق مكاسب سياسية، وليس نصرة رسول الله".

يضاف إلى ذلك بالطبع الحديث المتكرر والمستحب عن "المؤامرة". والواقع أن هذا الحديث يجد من الذرائع الكثير ليعززه ويمنحه وجاهة في حالة هذا الفيلم والطريقة التي هيمن بها على الأحداث في منطقتنا والعالم أجمع.

فحتى لحظة كتابة هذه السطور لا يعلم أحد على وجه اليقين اسم صانع الفيلم الحقيقي، وما إذا كان نيقولا باسيلي نيقولا أم سام باسيلي. كما أن عدداً من الممثلين المشاركين فيه أنكروا أنهم كانوا يعرفون المغزى من إنتاجه أو علاقته بالنبي الكريم، بل إن كل ما هو متوافر من هذا الفيلم ليس سوى شريط دعائي لا تزيد مدته عن 14 دقيقة؛ أي أن وجود فيلم مدته ساعتان باسم "براءة المسلمين" هو أمر محل شك أيضاً.

ليست المعلومات المتضاربة بخصوص صناع الفيلم فقط هي ما يعزز حديث المؤامرة، لكن الطريقة التي دخل بها الفيلم إلى مسرح الأحداث أيضاً تثير المزيد من الشكوك؛ إذ يقال إنه أُنتج في صيف العام الماضي 2011، وعُرض قبل ثلاثة شهور، ولم يشعر به أحد، إلى أن تم عرض مقطع منه على مواقع عربية "مدبلجاً" بالعامية المصرية، لتندلع نيران الاحتجاج والغضب.

المعلومات المتضاربة تنسب الفيلم إلى منتج ومخرج إسرائيلي يهودي تارة، وإلى مصري قبطي مهاجر يحمل الجنسية الأميركية تارة أخرى، وتربطه بالقس المتعصب المثير للجدل تيري جونز، وبقبطي مصري مهاجر إلى الولايات المتحدة يدعى موريس صادق؛ وهي كلها معلومات غير مثبتة من جهة، ومن شأنها أن تؤدي إلى مزيد من تأجيج المشاعر والانفلات في التعبير عن الغضب من جهة أخرى.

فالجمهور الغاضب في العالم العربي والإسلامي ينتفض بشدة ضد كل ما يأتي من إسرائيل، أو عبرها، في ما يخص معتقداته وحقوقه. وتيري جونز صاحب سابقة خطيرة؛ فهو الرجل الذي حاول حرق القرآن الكريم، والذي دعا إلى إقامة محاكمة" للرسول الكريم. أما موريس صادق فهو من أكثر المهاجرين المصريين إثارة لرفض وانتقادات مواطنيه، بسبب آرائه الحادة التي دعا في بعضها إلى إقامة دولة قبطية منفصلة، ودعا في بعضها الآخر إسرائيل إلى التدخل في شؤون مصر لحماية المسيحيين، مما أدى إلى صدور حكم ضده بتجريده من الجنسية المصرية.

نظرية المؤامرة تتعزز كذلك بالمستوى المتهافت الذي يظهر فيه الفيلم من خلال شريطه الدعائي المعروض على مواقع الإنترنت. فالفيلم رخيص ومتدن ويعكس سوية مهنية فقيرة وبدائية للغاية، ولا يتصل بأي شكل من الأشكال بحالة التطور التقني والفني التي تتميز بها الأفلام الأميركية مهما كانت سخيفة وقليلة التميز، وهو الأمر الذي يرجح أن المقصود منه لم يكن سوى إثارة الفتنة وتحقيق الغرض السياسي بأقل جهد فني ممكن وبأدنى كلفة مالية.

سيمكن أيضاً التساؤل باندهاش واستنكار شديدين عن السبب في قتل السفير الأميركي لدى ليبيا، وذكر بعض المعلومات عن الدور الذي لعبه هذا السفير بالذات في دعم الثورة ضد القذافي، فضلاً عن العلاقات الطيبة التي تربطه بعدد من الأطر العربية والإسلامية.

وسيمكن كذلك التساؤل عن جدوى قيام المتظاهرين السودانيين بحرق السفارة الألمانية بالعاصمة الخرطوم، أو اعتداء "جهاديين" مصريين على قوات حفظ السلام الدولية في سيناء، أو مطالبة آخرين بطرد السفراء الأميركيين من البلاد العربية والإسلامية، واعتذار واشنطن العلني عن الفيلم.

من المستحب أيضاً أن نتحدث عن ضرورة التصرف بلياقة وحضارية إزاء هذا الفيلم المسيء، وعن أهمية مواجهته عبر الأطر القانونية من خلال رفع دعوى قضائية مثلاً، أو عن طريق جمع أموال لإنتاج أفلام عالمية عن "عظمة الرسول"، لتعريف العالم الغربي بالإسلام ورسالته ونبيه.

ومن المستحب كذلك أن نلوم بعض وسائل الإعلام لأنها ضخمت من أثر الفيلم وردود الفعل عليه، أو شجعت على المزيد من الغضب، أو لم تسع إلى تهدئة خواطر المحتجين وغيرهم.

لكن هناك ما هو أجدى من كل هذا وأجدر أن يقال الآن؛ فثمة ثلاثة أسئلة حقيقية لا تُطرح كثيراً، وربما لا تُطرح أبداً، على هامش هذا الحدث، يجب أن نحاول الإجابة عنها الآن:

السؤال الأول: هل ستتأثر العلاقات بين الولايات المتحدة والدول التي شهدت الاحتجاجات تأثراً جوهرياً من جراء الأحداث الأخيرة؟

الإجابة: نعم... ستتأثر العلاقات بين الولايات المتحدة والدول التي شهدت تلك الاحتجاجات تأثراً طفيفاً، لكن ستبقى قدرة تلك البلدان على صيانة المصالح الاستراتيجية الأميركية وتحقيق التعاون المشترك في الملفات العديدة هي الفيصل في تحديد إمكانية تخطي تلك الأحداث ومدى تطور العلاقات وازدهارها.

السؤال الثاني: هل بإمكان الولايات المتحدة، رغم صيانتها لحرية الرأي والحق في التعبير، أن تجد أطراً ووسائل للحد من انتهاك حرمة الرسول الكريم والتعريض بكرامة الإسلام والمسلمين، أو على الأقل وضع قيود على استسهال ارتكاب تلك النقائص.

الإجابة: نعم

السؤال الثالث: هل يمكن أن تؤدي تلك الاحتجاجات، العنيفة أحياناً، والهوجاء عادة، وغير المدروسة في الأغلب، إلى تحفيز واشنطن لاتخاذ خطوات في اتجاه حماية مشاعر المسلمين من مثل هذه الانتهاكات في المستقبل؟

الإجابة: نعم

* كاتب مصري