الإعلام المصري ليس «المتهم الوحيد»
تتفق أطراف عديدة في المجال العام على توجيه انتقادات حادة للإعلام المصري، وتتهمه بالمسؤولية عن حال الارتباك والخلل والهشاشة السياسية التي تعانيها البلاد، خلال فترة التحول الديمقراطي الصعبة، التي تمر بها منذ اندلاع ثورة 25 يناير.فقد تعرض الإعلام المصري، بشتى أنواعه وأنماط ملكيته المختلفة، لهجمات قاسية على مدى نحو 20 شهراً من عمر الثورة؛ توافقت خلالها أطراف شديدة التباين على اعتباره مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن "حالة فقدان الاتجاه"، وصناعة الأزمات السياسية المتكررة.
وبات من المعتاد أن يتم توجيه اتهامات إلى الإعلام والإعلاميين المصريين بلعب أدوار سلبية تضاعف من مخاطر المرحلة الانتقالية، وهي اتهامات لا تصدر فقط عن بعض سلطات الدولة، أو جماعة "الإخوان المسلمين"، و"التيارات السلفية"، وقبلها "المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، أو الحكومات التي عينها، أو أعضاء المجالس النيابية، أو التيارات العلمانية والليبرالية المختلفة، أو حتى أركان النظام السابق والمتعاطفين معه، لكنها تصدر أيضاً عن قطاعات عديدة في الجسم الإعلامي نفسه، وتزيد وتيرتها باطراد بين الجمهور.وفي الوقت الذي يواجه فيه الإعلام مثل تلك الاتهامات، تتسع صناعته اتساعاً غير مسبوق على الإطلاق، لجهة عدد الوسائل الجديدة التي تصدر باطراد، وحجم الإنفاق عبره، رغم تراجع المصدر الأساسي لتمويله المتمثل بحصيلة الإعلانات بنسبة تصل إلى 43% خلال فترة ما بعد الثورة.تشير القراءة المتأنية لواقع صناعة الإعلام في مصر بعد الثورة إلى دخول أنماط تمويل غير معيارية لتلك الصناعة، تستهدف تمركزاً سياسياً عبر الإعلام، وتنفق من دون دراسات جدوى تتوقع استعادة النفقات، وهو الأمر الذي يبرر الزيادة الكبيرة في عدد الوسائل مقارنة بتراجع الإنفاق الإعلاني المرتبط بتدني الأداء الاقتصادي في العامين 2011، و2012.وبسبب افتقاد مصر لمنظومة إعلامية متكاملة رشيدة، فإن قواعد الشفافية والإفصاح المالي غائبة، ولا توجد قوانين لمحاربة الاحتكار وتركز الملكية، وهو الأمر الذي عزز الاتهامات بزيادة حجم "الاستثمار السياسي عبر الإعلام".ورغم الاتساع النسبي في هامش الحريات الذي بات يتمتع به الإعلام المصري بفضل ثورة 25 يناير وزعزعة التحكم الأمني/ السياسي في صناعة الإعلام، فإن تلك الصناعة شهدت تدخلات خشنة من قبل الحكومة التي تم تشكيلها في أعقاب وصول الدكتور محمد مرسي إلى منصب رئيس الجمهورية في يوليو 2012، في ما اُعتبر امتداداً لسياسات مشابهة اتبعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أدار شؤون البلاد، في الفترة من 11 فبراير 2011، وحتى قيامه بتسليم السلطة للرئيس المنتخب.وقد ظهرت أعراض التدخلات الخشنة، خلال فترة ما بعد ثورة يناير، في تحويل بعض الإعلاميين والصحافيين للمساءلة القضائية أمام القضاء الطبيعي والعسكري، ووقف طبع بعض الصحف مؤقتاً أو إلزامها بتغيير موضوعات قبل طبعها، أو إزاحة بعض الإعلاميين من مواقع عملهم بسبب "أنماط أداء معينة" عبر ضغوط على مالكي الوسائل، وتعيين وزير إعلام ينتمي إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، وقيامه باتخاذ قرارات اعتُبرت تقييداً لحرية الإعلام، بالإضافة إلى استخدام "مجلس الشورى" ما يرى أنه "صلاحياته القانونية" في تعيين قيادات المؤسسات الصحافية المملوكة للدولة، وهو الأمر الذي واجه انتقادات ورفضاً من أطراف عديدة. وزادت قابلية المنظومة الإعلامية المصرية للاستقطاب السياسي في فترة ما بعد الثورة، إذ صدر عدد كبير من وسائل الإعلام المملوكة لأحزاب أو تيارات سياسية أو رجال أعمال مسيسين، والأخطر من ذلك أن عدداً لا يستهان به من الوسائل الجديدة يتبع تيارات ذات إسناد ديني، وقد ظهر ميلها إلى تعزيز الاستقطاب السياسي على أساس ديني، بما ينذر بمضاعفة المخاطر الطائفية.ولم تنجح مؤسسة الرئاسة، أو الحكومة التي عينتها، أو "مجلس الشعب" قبل حله، أو "الجمعية التأسيسية" المنوط بها وضع الدستور، وقبلهم المجلس العسكري في الفترة التي أدار فيها شؤون البلاد، في تحرير الإعلام العام المملوك للدولة وإصلاحه، عبر خطة واضحة ومعلنة ومتكاملة.ولم تصل دعاوى تطوير الإعلام، ضمن استكمال آليات التحول الديمقراطي، إلى المنظومة الإعلامية، سوى في ما يتعلق بالتحرر الطوعي لبعض العاملين في الإعلام العام من قيود المواءمة السياسية، لكن مشروعات "نقابة الإعلاميين"، أو "قانون تداول المعلومات" أو إزالة العقوبات السالبة للحرية على جرائم النشر والإذاعة، أو "التنظيم الذاتي" لصناعة الإعلام، أو إنشاء "هيئة ضابطة" له، جميعها لم تجد طريقها إلى التفعيل، رغم الكثير من الدعوات والمحاولات.كما أن المشكلات الهيكلية التي تعوق عملية التحول الديمقراطي لمنظومة الإعلام، باعتبارها ضرورة أساسية لإنجاز التحول الديمقراطي للدولة والمجتمع في مصر، ما زالت قائمة دون تفعيل خطط حلها، رغم وجود العديد من المبادرات والرؤى والأفكار التي يمكن أن تساعد على تحقيق هذا الهدف.يضاف إلى ذلك أن الإعلام أصبح "المتهم الأول" في مصر اليوم، وربما تم التوافق بين أطراف شديدة التباين والاختلاف على أنه "وراء الارتباك والخلل" الذي تشهده البلاد في فترة الانتقال الديمقراطي الصعبة.لا ينظر كثيرون إلى الإعلام بوصفه تعبيراً عن قوى ومصالح اجتماعية وسياسية منخرطة في صراع، وربما تفتقد إلى الرشد، ولا يقيم بعضها وزناً للمصلحة العامة، ولكنهم ينظرون إليه باعتباره "مخلوقاً لذاته"... يتحرك من تلقاء نفسه، لتحقيق أهداف ليس لها أصحاب ومصالح لا تقف وراءها جماعات وقوى سياسية بعينها.الإعلام في مصر يخطئ، ويعمق جراح الانتقال الديمقراطي الصعب، لكنه ليس "المتهم الوحيد"، وهو بحاجة إلى إصلاح ذاته، بالقدر نفسه الذي يحتاج فيه المجال العام، بجوانبه السياسية والاقتصادية والأخلاقية، إصلاحاً.* كاتب مصري