فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس
بعيدا عن الأبعاد السياسية والقانونية لقرار المحكمة الدستورية التاريخي ببطلان انتخابات مجلس فبراير المشؤوم، فإن في القرار عبرة لمن يريد أن يعتبر، ويراجع نفسه بدلا من المكابرة والهروب إلى الأمام، فمنذ نتيجة الانتخابات ونواب الأغلبية المخلوعة يعيشون في نشوة الفوز التي أفقدتهم صوابهم، وانعكست هذه النشوة على أدائهم البرلماني الذي شابه الكثير من الانحراف ظنا منهم أن عددهم سيمكنهم من فعل ما يشاؤون سواء كان بحق أم بباطل، وتناسوا السنن الكونية والعبر التاريخية التي تنافي ذلك.فمنذ بداية عمل المجلس المخلوع رأينا روحية الانتقام والإقصاء في أدائهم، ولم يعد هناك احترام لا للدستور الذي يدعون حمايته ليلا ونهارا ولا للائحة الداخلية، فرأينا تشكيل لجان التحقيق بصورة مخالفة للائحة الداخلية، وتنمّ عن نفس الانتقام والتوصل إلى النتائج المسبقة إضافة إلى الكثير من القرارات الأخرى المخالفة للائحة، وعندما كان نواب الأقلية ينبهونهم إلى أخطائهم كان الرد الحاضر هو: "عندنا أغلبية... صوّت!"، وعندما انسحب نواب الأقلية في إحدى المرات احتجاجا على إجراءات خاطئة كان رد أحدهم بكل صلافة وغطرسة: "صكوا الباب وراكم".
أما طلبات رفع الحصانة فكانت تتم الموافقة عليها حسب المزاج، فإن كنت من الأغلبية تكون محميا حتى لو لم يكن بالقضية أي كيدية، أما إن كنت من الأقلية فالحصانة مرفوعة عنك حتما حتى لو كان في القضية كيدية. كما أجازوا لأنفسهم الإساءة لمن تهواه أنفسهم، فأساؤوا مثلا للوزير الشمالي وظلموه، وسموه باللص إلى ما هنالك من ألفاظ جارحة، لكن عندما أسماهم الشمالي بـ"نواب الجواخير" ثارت ثائرتهم واعتبروها إساءة لا تغتفر! أما طلب طرح الثقة فكان جاهزا من قبل جلسة الاستجواب وكانت القاعة شبه خالية حين رد الوزير على المحاور لأن الهدف كان إسقاط الوزير مع سبق الإصرار والترصد، لكن نسوا أن يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم. فبعد أقل من شهر من استقالة الوزير طار النواب الـ"35" جميعهم!أما النائب أحمد السعدون فقد باع تاريخه بثمن بخس خضوعا للأغلبية وأجندتها، ومرر كثيرا من القرارات المخالفة للائحة مع علمه بأنها مخالفة، ومارس التعسف والمزاجية ضد مخالفيه ظنا منه أن الأغلبية هي التي تضمن له الرئاسة وليس رب السماء. لقد نسوا أن الباري عز وجل هو الذي مكنهم من حصد الأغلبية المطلقة من أجل الإصلاح لا الإقصاء، لكنهم تكبروا وتغطرسوا فجاءهم الطوفان من حيث لا يحتسبون، وكانوا مصداقا للآية الكريمة: "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ".لقد أرتنا السنن الإلهية كيف أن الحق سينتصر في النهاية مهما طال الظلم، وأن ما بني على باطل فهو باطل وسيسقط يوما، فها هو صدام وها هو القذافي وغيرهما حكموا لعقود من الزمن بالحديد والنار لكن أمضوا آخر أيام حياتهم مطاردين وتم العثور عليهم إما في جحور الفئران أو أنابيب المجاري، فحتى لو عاد هؤلاء وحصدوا الأغلبية مرة أخرى فحتما سيسقط مشروعهم في يوم آخر لأنه مشروع تدميري ظاهره الرحمة وباطنه العذاب "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"، لكن هل يتفكر هؤلاء الغارقون في وحل التعصب القبلي والطائفي؟ أشك في ذلك.