رائحة السينما

نشر في 22-03-2012
آخر تحديث 22-03-2012 | 00:01
No Image Caption
 فوزي كريم يحل بي فجأة هوسٌ سينمائي. واضح أن رغباتي في المشاغل الأخرى غير معطلة: القراءة، الكتابة، الموسيقى، الرسم. ولكن هوس السينما يحتل موقعاً خاصاً، لأنه يُقبل من الذاكرة. فالسينما هنا ليست تعويضاً عن افتقاد لفنون أخرى، بل هي رغبة في الرؤية التي تشترك فيها الفنون جميعاً. لن أفتقد فيها الكلمة، الفكرة، الموسيقى، والتشكيل. من داخل الشاشة الفضية تفيض ينابيع الصورة والصوت معاً، في دراما تكون الكلمة فيها عنصراً حاسما، حتى في السينما الصامتة. وإذا كانت هذه عناصر موضوعية فإن عنصر الذاتية جوهري. فنحن نحب السينما لأنها شريان نابض في حياتنا الشخصية منذ الطفولة. حتى لتبدو استعادة الذاكرة لعالمها ذات صبغة روحية. نعم، الصبغة الروحية للذاكرة. ففي الطفولة كانت السينما مدخلاً لا يُضاهى لفانتازيا المخيلة، المفتقدة في الحياة الواقعية، للسحر الكامن في الافتراض والتوقع. وهي في عمري الآن، وفي المغترب البعيد، مدخل سحري للماضي المُنتخب بعناية: ماضي الطفولة، الصبا والشباب الأول مع أبهاء السينما في بغداد: الخيام، غرناطة، بابل، النصر، سميراميس، السندباد، ميامي، النجوم، شهرزاد، ريكس، روكسي، برودوَيْ، الرشيد، ريجنت، وعشرات السينمات الأخرى الموزعة حول المركز.

كان دخول أحدنا في بهو السينما يعني الخروج من العالم. وبالرغم من أن العناصر التي تشكل هذا البهو هي ذاتها المتوفرة في حياتنا اليومية: التبريد في الصيف، سعة الفضاء المقفل والمضاء برقة، مشاعر الصحبة حتى لو كنت وحيداً، صوت فريد الأطرش (ولا أعرف لم فريد الأطرش وحده!) التي تتدفق عليك من كل مسامة في الشاشة الفضية الواسعة، رائحة «العنبة» التي تلدغ حرارةُ مذاقها الأنف، رائحة «الشامية» (الذرة) الحميمة، الانتظار المشوب بتوقع لا يُشبه التوقعات التي نألفها في حياتنا الأرضية، العتمة المفاجئة التي تحتضنك وتقذف بك على حين غرة في عمق الشاشة مع الشخوص والأحداث... أقول بالرغم من توافر هذه العناصر إلا أنها في السينما تتماسك متوحدة. تُقبل عليك، وأنت في الحاضر، كتلةً واحدة لا تملك أن تفصل صوت فريد الأطرش عن رائحة «العنبة»، أو التوقع عن العتمة المفاجئة. ولذلك تبدو لي هذه الاستعادة ذات صبغة روحية.

حين زرت بغداد قبل أشهر لم أستطع أن أستوعب مقدار الخراب الذي حل في هذه المدينة إلا حين دخلتُ عنوةً بهوَ سينما الخيام (أُسست أوائل الخمسينيات)، ونظرت عن بعد إلى خرائب سينما غرناطة، وقطعتُ واجهةَ سينما سميراميس بنظرة المرتاب الخاطفة. في داخل سينما الخيام تعمّدتُ أن أتجنبَ النظر إلى جداريتيْ عمر الخيام الكبيرتين (صممتا خصيصاً في إيطاليا)، اللتين تغطيان جانبيْ البهو، خشية أن لا أراهما، فشغلتُ العين بالمقاعد المتحركة (مستوردة في حينها من أميركا) التي مزّقت مخملَها الأحمر وبعثرت حشوتها آلافُ القطط السائبة. كانت جداريّتا الخيام شاهديْ إدانة صارخة على وقاحة المرحلة، وشاهديْ ذكرى عزيزة على النفس، هي ذكرى أولى مبالغاتي الكاذبة أواخر الطفولة.

في أيام الاحتفاء بافتتاح سينما الخيام صحبتُ أخي الكبير لواحدة من عروضها، ورجعت ممتلئاً حماساً لأصدقائي المنتظرين بحماس مماثل، في محلة العباسية. لم أروِ لهم حكاية الفيلم، لأن تطلّع كلينا كان متجهاً إلى سينما الخيام ذاتها. قلت لهم، وأنا أرتجف حماساً، بأن الكرسي الذي جلست عليه كان يتحرك بأزرار على مسند اليد. ولك، حين تُطفأ الأضواء، أن تبقيه باتجاه الشاشة لترى الفيلم، أو تديره باتجاه اليمين أو الشمال، لترى فيلمين إضافيين. كانت رغبتي، في تحويل لوحتيْ الخيام الكبيرتين الرائعتين إلى شاشتين بفيلمين، في مكانها تماماً. وكانت الدهشة والحسد في عيون الأطفال الصغار من أصدقائي محفزيْن لا مرد لهما. وبقيت هذه الرؤيا تصحبني كلما ذهبت إلى سينما الخيام في السنوات التالية قبل الخروج. وهي تصحبني حتى اليوم.

 

back to top