بعد غدٍ سيأتي الثاني من أغسطس مرة أخرى، ويأتي معه التاريخ الذي يصرّ على أن يطل برأسه رغم مرور واحد وعشرين عاماً. ولعل التذكّر يتخذ منحى آخر حين يتجذّر ويتأكد من خلال الأعمال الفنية والإبداعية. إن أحداثاً عظمى كالحربين العالميتين والاحتلالات وتدمير المدن وتشويه الإنسان تظل تاريخاً كالحاً مدفوناً تحت الأنقاض، ما لم تُضخ فيه دماء الحياة المتجددة من خلال الأعمال الإبداعية التي تشحنه بنبض الإنسان وحرارته ومعاناته. ولولا روايات وأفلام خالدة مثل "الحرب والسلام"، و"ذهب مع الريح"، و"وداعاً للسلاح"، و"بيرل هاربر" وغيرها، لكان التاريخ مجرد آلة ودخان وأنقاض حائلة.

Ad

هذا العام يأتي الثاني من أغسطس في رمضان ليتراءى من خلال مسلسل تلفزيوني هو "ساهر الليل/ وطن النهار"، ليعيد سرد ما حدث ونبش التذكارات والأحزان الغافية والمشاهد الغاربة. ولسنا هنا بصدد تقييم المسلسل فنياً، فهو عمل لم يكتمل بعد، ولكن عرضه هذه الأيام يفتح أمامنا الطريق لاستذكار أعمال أدبية ساهمت ولا تزال في رسم صورة هذا التاريخ من منظور إبداعي. وأعني بهذه الأعمال ما تمت كتابته ونشره ضمن مجموعات قصصية نجحت في تصوير تجربة الغزو ورصدها في بعدها الإنساني الأعمق غوراً.

لن أدخل القارئ في تحليلات نقدية لا تسمن ولا تغني من جوع، وأكتفي بما هو أبعد أثراً، وأعني به الاستشهاد بمقاطع حية من تلك القصص، ففيها ما يحقق الغرض وما يحاكي تجارب لا تزال طرية كأن الزمن لم يمسها بغباره:

"عمليات السقوط كانت متتالية بشكل مأساوي. أسماء الشوارع سقطت، ثم سقطت أسماء الناس، سقطت أجساد شابة كانت تعجّ بالحياة، سقطت المدينة المستمرة في انحدارها. ساعة الزمن تتحلل، تذوب، تسقط الأرقام واحداً تلو الآخر".

ثريا البقصمي / قصة: زمن الانحدار

"أحمل روحي الممزقة، أطحن أسفلت الشوارع الذي طحنته الدبابات العربية العتيدة، أتجاوز الحواجز السوداء، أتحاشى أنظر إلى البيوت والقصور شاحبة خاوية قفراء من رنين الضحكات وصراخ الأطفال، محسورة عن نوافذها الغلالات تبكي الذين رحلوا فأبكي، أدس شريطاً من الماضي فتفوح أغنيات الزمن الجميل".

ليلى العثمان / قصة: الرحيل الدامي

"رأوكِ وأنتِ تدخلين وتخرجين بغموض... وتساءل أهل الحيّ. ورأوكِ وهم يجرونكِ من شعرك وقد انحسر الفستان عن فخذيكِ... رأوكِ وهم يركلونكِ بأحذيتهم ويضربونكِ بأعقاب البنادق... وتحسّر أهل الحي. رأوكِ جسداً ممزقاً قرب القمامة... وكبرتِ في عيون فتيان الحيّ".

وليد الرجيب / طلقة في صدر الشمال

"يا النذل تخلي ديرتك للعدا وتهجّ؟ والله لو على موتي... جدك مات في بحرها، واحنا في برها نموت. على ركبة أبيه ينثني وينخرط في البكاء، يرأف الشايب به، يمسح رأسه يواسيه:

- ابك وأنت فيها أخير لك أن تبكي عليها وأنت بعيد. ترى الحسرة ستأكل في قلوبهم".

ليلى العثمان / قصة: ما قاله أبوصالح

"الوطن صيحة استغاثة. تقف سيارات عسكرية... يشير إصبع خسيس إلى بيت وبعد ساعات يتساءل المعتقَل: كيف؟ تقرع أجراس البيوت، تطرق الأبواب، تفتح. وعند العتبات يستلقي زوج أو ابن أو حبيب ونثار الرأس والدم على باب البيت بعد دوي طلقة. أو تفتح الأم أو الزوجة الباب فترى من كانت بانتظاره. تفتح ذراعيها فيسقط المنتظر في حضنها مثقوب الرأس بعد دوي طلقة".

وليد الرجيب/ طلقة في صدر الشمال

"كلاهما يشم للحياة رائحة عفنة ويلمح طيورها السوداء تحلق. فالمدينة لم تشفِ بعد، مازالت تقتات من دماء جراحها ودموع ناسها المحسورين على شهدائهم وأسراهم، فصامت شفاههم عن كل شيء إلا الدعاء".

ليلى العثمان/ قصة: وجوه على حاجز الذاكرة

"غيّرتنا الحرب. أصبحنا لا ندري ماذا نقول أو ماذا نريد أو نفعل. غيرتنا الحرب... سرقت إنساننا الصغير ولغتنا العظيمة".

ناصر الظفيري / قصة: ترنيمة متأخرة لشتاء 92

"الوطن لا يموت يا صديقتي... يتألم... يجوع... يقهر، ولكنه لا يموت".

ناصر الظفيري / قصة: المقعد الخالي