انتهيت هذه المرة مبكراً من ممارسة طقوس الواجب بالمباركة بالعيد لشقيقتي الكبرى وأرملة شقيقي الأكبر، فلم يعد هناك من يفترض أن أعايده وأستكمل أداء الأصول الواجبة، فالبيوت التي كنت أعايد أهلها تتقلص عاماً بعد عام، قبل سنوات طويلة رحلت أمي، وبعدها خالتي الكبرى ثم بقية الخالات والإخوان، وكل مرة يطرق الموت بيت أحدهم تنقص بالتبعية مشاوير الزيارات للمباركة بالأعياد، تلك ميزة وفرها لنا الزمن عبر جسر الموت ليخفف من أعباء الواجبات.

Ad

أعيد في كل زيارة مباركة بالعيد بعبارة، "لم يبق إلا أنت وأم عمر"، أقولها مداعباً شقيقتي، وبعدها لا زيارات أعياد، لكن من يدري فقد أسبقكما إلى الفناء، وهنا أيضاً أصل إلى ذات النتيجة، فلا زيارات مباركة وراحة أبدية، الموت مهما كانت أسبابه لن يحملك أي خسارة، ففي النهاية لا فرق كبيراً بين الخواء الروحي والاجتماعي في الكويت والموت، فهما يستويان في ميزان العدم، حقيقة لا تخسر شيئاً حين تموت كويتياً أو ساكناً في هذا البلد.

الطباخ البنغالي محمد سيد القوم في المنزل يأخذ إجازة العيد، إذن لا غداء في المنزل، عندها لابد من العودة الراسخة إلى عاداتي وتقاليدي وممارسة واجب البحث عن مطعم لنعلف به ثم نتجشأ هواء رطباً ساخناً يتلاشى سريعاً في طبقات الغبار الرمادية، والتنقل بين مطاعم "الجينكي" الكثيرة في كل زاوية متربة بالدولة أو مجرد التفكير كيف ستقضي ساعة البلع والزلط في مولات الدولة يعد نوعاً من البهجة، هي حتماً آخر ملامح للبهجة، في بلد الحرام والحرمان.

دخلت مع ابني محمد إلى مطعم علفي عادي، لم يكن معي بقية أبنائى وبناتي، فابنتي الكبرى مرهونة عند ابنها الصغير، وحامد سافر إلى دبي، فهو يقول إن العيد لا يطاق في الكويت، بينما أقول إن الحياة كلها لا تطاق في الكويت، أما الابن علي فقد أغلق على نفسه باب الغرفة، ولا أعرف ولا يهمني ماذا يفعل... آسف نسيت أول الموضوع، بعد أن ولجنا المطعم، فقد حدث... أنه لم يحدث شيء... قرأنا المينيو وطلبنا من الجرسون الفلبيني الأكل المقرر، هو مقرر كأيام الروتين المقررة في بلد اللاقرار، وكالحكومة الموقرة وكالمعارضة المقررة وكالموالين من الأوفياء التابعين، كل أمر هنا مقرر سلفاً، أكلنا، شربنا، نومنا، صحونا، تفكيرنا مقرر علينا، أليس هذا ما "يقرره" المفكر الإيراني داريوش شايغان فقد كتب: "هكذا يظل الفرد ترجيعاً للصدى في سلسلة العلاقات الكلية حيث تعد كل حركة شاذة وكل انحراف عن المجموعة وكل إبداع فردي فساداً للانسجام المسبق، بل وخروجاً على الجماعة..."، لنترك كتاب داريوش "ما الثورة الدينية" ونعد إلى مطعم علفان ستيك هاوس.

كما قلت لكم لم يحدث شيء، والذي حدث حقيقة هو أنني أخذت أعد كم ذكراً وكم أنثى يجلسون في المطعم، الطاولة التي بقربي يجلس عليها ذكران شابان لا يتحدثان، يتأملان ساحة المطعم، يتأملان اللاشيء... مساكين، ومسكين من يكون شاباً يقرر مصيره العجائز، ثم هناك طاولة بعدها جلس عليها مواطنان في منتصف عمريهما، أحدهما له بطن كبير يكاد يسقط للامام ويعلن الثورة والعصيان على "الدشداشة" التي تغطيه... هو أيضا مسكين من مساكين الكويت، فالبلع ونفخ الكرش عندنا هو وسيلة لتمضية أوقات الفراغ، لم يكن الأكل أبدا بدافع الجوع، فنحن نعوض الجوع الروحي بالأكل وتفاهات القيل والقال و"شنو قالوا وما سمعتوا... وما دريتوا..."، بقية الطاولات كلها تحيط بها كتل من الذكور عدا طاولة واحدة جلس عليها ثلاثة أجانب غربيين ذكور ومعهم أنثى واحدة هي فلبينية، كانت تلك الطاولة اليتيمة التي انخرط أصحابها في الكلام مع بعضهم ووجوههم تتفاعل مع الحياة بالابتسامات والضحك... لماذا هم مبتهجون؟ لأن معهم "أنثى" والأنثى هي الفن والجمال، أم تراهم فرحين لأنهم يعلمون أنهم في النهاية سيغادرون قلعة الغبار الكويتية المملة.

مضى الوقت سريعاً أو بطيئاً لا أدري، أعلم أنه في كل ثانية تمر تخصم من العمر وتقربك من النهاية ولا توجد لحظة حاضر، فهذه يقذفها النور إلى الماضى وتلج إلى المستقبل حالاً، ويصبح الحاضر "الآن" ماضياً، وكلما امتد بك العمر تراكمت في خزينتك الروحية أرصدة من لحظات عمر الذكريات، وهي لمن كان في أعمارنا أجمل كثيراً من اليوم، قد يكون السبب أن الشباب دائما أجمل أو أن الكويت كانت أجمل في لحظة الليبرالية التي مرت سريعاً في السبعينيات أم أن كآبة اليوم هي كآبة العمر، فالذين عشت أجمل سنيني معهم والذين ضحكت وفرفشت بمجالسهم، رجب أمين وعبدالله سعود والفنان راشد الخضر ونصر الله النصر الله... وفايز المطوع والقائمة ممتدة، كلهم رحلوا بعد أن اشترى لهم عزرائيل تذاكر سفر سريعة "ون واي". تذكرت أحد الأحياء من الأصدقاء اقترح بصيغة تساؤل، وبعد أن عزينا بوفاة قريب: ما رأيك أن نسهر الليلة في الصليبيخات (المقبرة) فهناك "اونس" كل الربع موجودون! موجودون كجثث، رمم، كانوا وكانوا مثلنا موجودين، الآن ليس لهم وجود، وسنصير يوماً ما مثلهم.

خرجنا من المطعم، ذهبت للمنزل، جلست وحدي كالعادة، مرت على خاطري عبارة للروائي الياباني "مشيما" من رواية "معبد الفجر" (أعتقد ذلك) بأن الشيخوخة هي الموت بل هي أسوأ منه، لم ينتظر مشيما الشيخوخة ولا مفاجأة الموت، شق بطنه منتحراً على الطريقة اليابانية.

مضى العيد، ومرت عصريته، ويمضي بنا العمر، ولا يبقى لك غير الذكريات، ولوعتها، ولن تجد العزاء مع بروست ولا منازل سوان وستظل تبحث عن "الزمن المفقود".