ليس سهلاً مقاربة مؤلفات الناقد الفرنسي جاك دريدا أو التماس مع فكره، فهو يحلّق في منطقة وسطى بين الفلسفة والنقد، وفي فلسفته مساس بمسلمات كثيرة، وإعادة تفكيك وبناء لمعتقدات علمية ظلت راسخة في الأذهان لمدى طويل، وما ترجم منه إلى العربية سواء عن الإنكليزية، أو الفرنسية/ اللغة الأم، محل جدل ونزاع في دقة النقل، أو حتى الإحاطة بكل جوانب هذا المفكر متقلب المزاج، ومتحرك الفكر.
وفي هذا السياق كان لافتا الكتاب الذي أصدره الناقد البحريني محمد البنكي دريدا عربيا، "قراءة التفكيك في الفكر النقدي العربي"، وفي هذا الكتاب يقدم البنكي، محاولة "لاستكشاف مساحة الاشتغال العربي بقراءة دريدا، وتوضيح جنبات المشهد الذي عني باستراتيجيات التفكيك، ترجمة أو توظيفا أو معارضة، في ميادين الفكر النقدي العربي". وبرغم التشعبات الكثيرة لأبواب الكتاب إلا أن المحاولة الأكاديمية الجادة من ناقد شاب – توفي عن 45 عاما- تبقى محل احترام وتقدير، فالبنكي منذ بروزه أستاذا جامعيا، ومن ثم إعلاميا ساهم في تأسيس صحيفة "الوطن" البحرينية، وهو يخطو نحو اكتشاف المختلف والمستجد من الرؤى والنظريات النقدية، وكنت أذكر زيارة له إلى الكويت 1999 إن لم تخني الذاكرة قدم في حينها قراءة في القصيدة الخليجية المعاصرة، الكويتية تحديدا، ونالت محاضرته في معرض الكتاب أصداء جيدة لا سيما ما يتعلّق منها بالنظرية النقدية، وآلية توظيفها في قراءة النصوص المعاصرة، هذه الآلية التي هي محل شد وجذب بين المحدثين وأنصار التقليد. يقول البنكي: "لقد ظل النظر في القراءات العربية للفكر الغربي محتاجا إلى دراسة مستقلة تتناول مستويات هذه المعالجات ومجالاتها واستراتيجياتها المنهجية ولذلك رأينا أن تُخص هذه القراءات بدراسة مطبقة على متن نصي محدد ومحصور انسجاما مع مقتضيات البحث (...) ولم يكن افتقار هذه القراءات إلى الدرس هو وحده الذي دعانا إلى اختيار هذه الموضوعات، فقد كان لنا من الاهتمام الشخصي بتتبع الدراسات في مجال النظرية الأدبية المعاصرة وتعالقها بميادين العلوم الإنسانية الأخرى – والفلسفة منها بوجه أخص داع آخر إلى ذلك". ولعل اهتمام البنكي بالنظرية الأدبية هو ما يجعل مؤلفاته ذات طابع أكاديمي عميق، بالرغم من خوضه مجال الإعلام، ومساهمته في إدارة مجلات أدبية، وجامعية متخصصة، وفي كتابه عن دريدا لا يقف البنكي عند حد العرض أو استكشاف مؤلفات عربية تقارب منهج دريدا وفكرة التفكيك تحديدا، بل هو يلج في مناطق تماس وحوار يستجلي جوانب النقص عند هؤلاء المؤلفين العرب، لا سيما لناحية المصطلح الذي يقف البنكي عنده مطولا عند مصطلح النقد وتحوّلاته الدلالية، ويقدم في ذلك فروقا دقيقة بين تركيبتين لغويتين تبدوان مرتكزا هاما لقراءاته وهي تتمثل في الفروق بين عبارتي: "قراءة دريدا في الفكر النقدي العربي" و"قراءة دريدا في النقد الفكري العربي". ويتوقف البنكي عند محطات نقدية هامة ربما ساهمت في صناعة فكر دريدا ذاته، ومن تحولات المصطلح وتدرجه عبر أزمان متتابعة، ومنها المنبع الأول مع فكر أرسطو، ومن ثم تطور الحالة نظرية كانط، ويليها الفكر الماركسي، ولحظة الانتقال إلى الواقع، ومن ثم اللحظة الراهنة وهي التي يصفها البنكي بانتقال النقد من اللغة إلى الثقافة. وأما الكتاب العرب الذين يتوقف البنكي عند مؤلفاتهم نقدا وتحليلا فكثر، من بينهم: مصطفى ناصف، وعبدالعزيز حمودة، وعبدالوهاب المسيري، وكمال أبوديب، وعلي حرب.
توابل - ثقافات
لحظة تماس مع دريدا
24-06-2012