حياتنا عبارة عن سلسلة من الحسابات المستمرة التي لن تُغلق إلا مع إغلاق ملفاتنا ورفعها إلى أرفف النسيان. فمنذ الولادة وإلى الممات نبقى نعيش حسابات آجلة وعاجلة منتظرين الفراغ منها على الدوام، حتى نتفرغ لوهم ما ننتظره من بعدها ونعد له ونحتسبه، حينها تتسلل الحياة من بين أيدينا من دون أن ننتبه لانسرابها على غفلة منا، ومن دون أن نعي أن الحياة ليست قائمة في دفتر حسابات وديون تستعجل سدادنا لها، وما نستعجله هو هدر لما يجب أن نستعذبه ونتذوقه كنعمة العيش في سعادته وليس في انقضائه.
حسابات كثيرة لا تعد ولا تُحصى، فكل منا له حساباته الخاصة بآماله وأمنياته وأحلامه المختلفة عن غيره، ولكنها بشكل عام نجد أن معظمها محصور في بند العائلة ومسيرة حياتها من البداية وحتى النهاية، منذ تكون نواة الأسرة يُخط البند الأول في دفتر الحسابات للحياة القادمة كلها، فبعد الزواج يبدأ التفكير بإنجاب الأولاد، ومنذ تشريف الطفل الأول يبدأ الخط البياني الحسابي يتصاعد في نمو مضطرد لا يعرف التوقف إلا في نهاية الطريق.ولن أناقش الحسابات المادية التي تتعلق بالإنفاق العائلي، لكني سأتكلم عن المعايشة والتربية النفسية العاطفية وحساباتها مع الأبناء منذ الرفة الأولى في المياه الجنينية التي تحيل حياة الأم إلى العداد الزمني الخاص بنمو طفلها، ويبدأ العد: حساب انتهاء الوحام، ثم حساب الوقت لبداية الحركة الأولى للطفل، ومن ثم حساب الانتظار الطويل للولادة شهراً بشهر، بل يوماً بيوم من دون الاستمتاع بهذا الخلق غير العادي الذي ليس له مثيل ولا يُقدر بأي شيء آخر في الحياة، يمر هذا الحدث الرائع في حسابات سخيفة تهدر من قيمته الروحية والعاطفية والجسدية العظيمة من دون إدراك حقيقتها، حتى يحين وقتها، ومن ثمة يُفتح حساب العد الخاص بنمو الطفل في حياة انتظارات محسوبة يوماً بيوم، متى يصحو ومتى ينام ومتى يبتسم ومتى يبدأ الأكل، ويتكلم، ومتى يتوقف عن الرضاعة وترتاح الأم من تطهير الرضاعات، ومن الحفاضات، ومتى تنتهي السنة الأولى، ومتى يمشي ويذهب إلى الحضانة، ومن ثم المدرسة الابتدائية، ومتى يذهب إلى المدارس المتوسطة حتى يتعلم أن يدرس دروسه من غير مساعدتها، ثم يلتحق في الثانوية ويبدأ بشق طريقه في مراهقة مزعجة تجعل الأم تحسب الأيام وتستعجلها لتنتهي فترة مراهقته وإزعاجها، التي تنتهي فعلا بقفزة سريعة لم يُعمل لها حساب ويصبح فيها الابن أو الأبناء فجأة خارج منطقة التغطية، أي خارج منطقة الحسابات الخاصة بدفتر العائلة.وفجأة نكتشف أن الصمت قد حل علينا برحيلهم إلى عوالمهم ومحطات حياتهم المنتظرة لخطواتهم فيها، وليبدأوا بفتح حساباتهم الخاصة بمسيرتهم التي يحتسبونها وحدهم من دون حساباتنا.ونبقى في البيوت الفارغة الكبيرة الحاملة لصدى ذكرياتهم فيها، وكل ما حسبناه وهرولنا خلف تسريع زمنه وإنضاج وقته من دون أن نستمتع في معايشته والتلذذ في حياة تفاصيله بهدوء وراحة بال، لأنها الحياة التي لا يشبهها أي شيء وليس لها أي مثيل. كان كل همنا حرق المراحل والتسريع في الانتهاء من مهماتها، وأن ننتهي بسرعة من تعب التربية وثقل مسؤوليتها، حتى أكلتنا الحسابات التي كنا نردد فيها قولنا المتكرر ذاته: بس لو انتهينا من هذه المرحلة لبات الوضع أريح، وإن وصلنا إلى تلك التي تليها لارتحنا فيها أكثر، وهكذا حرقنا مراحل الحياة وتفاصيلها الحلوة اللذيذة من دون أن نعيشها في متعة الاستحواذ والقنص لكل بهجة الحياة السائرة لمصيرها المنزلق من بين أيدينا رغماً عنا، والتي نصحو ذات يوم لنجد أنفسنا وحيدين في وحشة البيوت الكبيرة الفارغة، المفتقدة لكل تلك الحياة التي كانت ضاجة بها، وأن تلك الغرف التي حملت أحلامهم وآمالهم وضحكاتهم واختلافاتهم وعراكهم وصخب موسيقاهم وإيقاع حياتهم اليومي المفتتح بضجيج خلاط عصير البرتقال وعدم الرضا عن عمل الخادمة أو تأخر السائق أو تضارب الأوقات وأشياء كثيرة كلها لا نشعر بقيمتها ونحن ندور في خلاط التربية وحسابات مراحل الانتهاء منها على أكمل وجه من دون أدنى تقصير، حتى جاء الوقت الذي لم نحتسبه بهذه الصورة التي حل بها الصمت وتراكمت الوحشة في الغرف الفارغة المغلقة خلف أبوابها الموصدة بوجه الانتظار لهم.
توابل - ثقافات
أبواب الغرف المغلقة
02-07-2012