تكثر الدعوات والمطالبات، في هذه الفترة التي تمر بها السلطة الوطنية الفلسطينية بأزمة مالية وسياسية خانقة، بحل هذه السلطة واستقالة محمود عباس (أبو مازن) والعودة إلى ما قبل عام 1993 عندما كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في تونس معلقاً من رموش عينيه، حيث كانت قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وكانت قد صدرت "تعليمات" من أصحاب التعليمات بتجفيف مصادره، وقطع كل المساعدات عنه، وتركه يذبل رويداً رويداً كما تذبل نبتة برية في هجير الصحراء!

Ad

ومع التقدير لكل الذين دأبوا على إطلاق مثل هذه الدعوات والمطالبات، التي كان قد سبقهم "أبو مازن" إلى التلويح بها مرات عدة كلما اشتد عليه ضغط معادلة أوضاعه المالية والسياسية... والتنظيمية الخانقة، فإنه لابد من تصور ما الذي سيحدث لو أن هذه "السلطة" القائمة قد انهارت ومعها منظمة التحرير وحركة "فتح"، ومعها هذه الوضعية الفلسطينية القائمة دفعة واحدة، وبقيت غزة في هيئة ضاحية بيروت الجنوبية، تتأرجح بين "الولي الفقيه" في طهران و"المرشد العام" في القاهرة، أو في أفضل الأحوال في هيئة حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي باشا، التي ربما لا تعرف هذه الأجيال من الشبان الفلسطينيين والعرب عنها أي شيء.

لنتصور ما الذي سيحدث لو أن هذا "العقد" قد انفرط دفعة واحدة... والمسألة هنا لا تحكمها الأحلام الوردية بعودة المقاومة إلى ما كانت عليه في ذروة تألقها، ولا الدوافع القومية يوم كان هناك بصيص أمل بالوحدة العربية، وبالزحف العربي اللجب في اتجاه فلسطين، وأيضاً ولا أن هناك الاتحاد السوفياتي وصين ماوتسي تونغ والمعسكر الاشتراكي وحركات التحرر التي تملأ أربع رياح الأرض... بل تحكمها الوقائع على الأرض إنْ في فلسطين نفسها، في الضفة الغربية وغزة، وإن في هذا الوطن العربي، الذي كنا نحلم بوحدته من المحيط إلى الخليج فتحول إلى هذه الأوضاع المبكية، وإن أيضاً في العالم الذي أصبح يقف على رِجلٍ واحدة هي رِجْل الولايات المتحدة الأميركية.

ولهذا فإنه علينا، قبل أن نستغرق في هذه الأحلام الوردية بأنَّ تشي غيفارا سيظهر في رام الله بديلاً لمحمود عباس (أبو مازن) إذا حُلَّت السلطة الوطنية ومعها منظمة التحرير وحركة "فتح"، أن ندرك أنه إذا انهار كل شيء في الضفة الغربية فإن البديل سيكون حالة "صومالية" جديدة، وأنه سيصبح في كل قرية ومدينة أمير حربٍ إما يتبع للمخابرات الإسرائيلية أو يتبع لإيران أو لأيٍّ من الأجهزة الاستخبارية العربية وغير العربية التي اعتادت الاصطياد في المياه العكرة.

وهنا فلربما يدفع انسداد الأفق وقلة الحيلة وفقدان الأمل والإفلاس السياسي البعضَ (بعضنا)، إلى القول: "عليَّ وعلى أعدائي"، وإنه ألف أهلاً بهذه الحالة "الصومالية" إذا كان الإسرائيليون سيعانون أكثر مما سيعاني الفلسطينيون والعرب، وإذا كان جمْرُ الفوضى المتوقعة سيحرق إسرائيل كما سيحرق "السلطة" و"المنظمة" وكل هذه الفصائل التي غدا أكثرها يشكل عبئاً ثقيلاً على الشعب الفلسطيني وعلى القضية الفلسطينية.

وحقيقة أن هذه التصورات المستندة إلى عقلية "الانتحار" هروباً من اليأس تذكرنا بتلك الفترة التي كنا قد طالبنا فيها، عندما كانت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 تمزق الوجدان العربي، بالانسحاب من الأمم المتحدة وبحل الجامعة وإطاحة الأنظمة العربية كلها التقدمية قبل الرجعية، وبالطبع فإننا عندما كنا نطالب بكل هذا تحت ضغط وجع الضمائر لم نكن ندرك أن الإسرائيليين وغيرهم كانوا ينتظرون مثل هذه اللحظة ليصبح شعار: "من النيل إلى الفرات" شعاراً واقعياً يمكن تحقيقه.