وكأننا كنا نقرأ الطالع؛ ففي المقال الأسبق المعنون «نقاد الغرف المغلقة»، أشرنا إلى ظاهرة تغول فصائل في المجتمع على القانون، واستغلال القبضة المرتعشة للدولة لفرض أفكارها ومعتقداتها على الجميع، وحذرنا من تنامي ظاهرة «الرقابة البديلة»، بعدما أصبح الباب مفتوحاً أمام أي تيار لينصب نفسه رقيباً على الإبداع، ويضع من عندياته، وحسب وعيه ودرجة ثقافته وتدينه، الحدود التي يراها للمصنف الفني، ويرفض أن يتجاوزها المبدع بأية حال من الأحوال.

Ad

 كتبنا بالحرف الواحد: «هذا يعني أن دور «الرقابة الشعبية» سيتفاقم في المستقبل القريب، وستصبح الحرية مرهونة

بـ «المزاج العام» للمجتمع، أو هيمنة التطرف على أركانه»... وأضفنا: «هنا سيُصبح «الرقيب»، ويا للمفارقة، أكثر رحمة بالمصنف الفني ممن يُطلقون على أنفسهم «النقاد» و{المثقفين»، وفي قول آخر «المبدعين».

 لم تمض سوى أيام قليلة، وإذا برسالة إلكترونية تكشف عن تفاصيل مخيفة تتصل بفيلم يحمل عنوان «المُلحد» اتخذ الرقيب، الذي يمنحه القانون سلطة تقديرية مُطلقة في إحالة الأمور المتعلقة بالأمور الدينية إلى الأزهر الشريف، قراراً بوضعه تحت وصاية الأزهر، الذي وافق، بعد أخذ ورد وسجال طويل، على عرض «الملحد»، ووافقت الرقابة بالتبعية على منح الفيلم ترخيص العرض التجاري.

عند هذا الحد كان من المفترض أن تنتهي أزمة «الملحد»، لكن ما حدث أن منتج الفيلم فوجيء، حسب تأكيده، بمكالمات هاتفية تُطارده، وتتعقبه، وصفحات عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» تهاجمه وتهدده، في حال تشبثه بعرض الفيلم، وتُطالبه بالتراجع وتجاهل الموافقات المختلفة التي حصل عليها من الأزهر والرقابة، وإلا واجه أزمة حقيقية.

صحيح أن المنتج أكد في رسالته الإلكترونية أن ما حدث لم ولن يُخيفه، وأنه مصمم على عرض «الملحد»، بدليل أنه يُجري بالفعل مفاوضات لعرضه في إجازة نصف العام الدراسي، لكن الأزمة تكشف، في جانب منها، حجم ما وصل إليه المجتمع المصري من فوضى، وتجاهل للقانون، فضلاً عن تجبر وتغول فصائل وتيارات جاهلة تحكم على الأمور بسطحية؛ فالفيلم الذي يحمل عنوان «الملحد» يُمثل رحلة شاب من الشك إلى الإيمان، وليس فيلماً «كافراً» كما تصور أولئك المتطرفون، الذين سارعوا بمحاكمة «المُلحد»، وأصدروا حكماً بإعدامه قبل مُشاهدته أو التعرف إلى رؤيته!

لا أنكر أن علامات الصدمة ترتسم على ملامح كل من يعرف أن ثمة فيلماً في الطريق إلى شاشات العرض السينمائي يحمل عنوان «المُلحد»، وسرعان ما تتحول الصدمة إلى تساؤلات غاضبة حول جدوى التفكير في خطوة كهذه ثم الإقدام على تنفيذها، وبعدها تتعدد الاتهامات الموجهة للأطراف المُشجعة لظهورها بالكفر والزندقة، من دون تريث أو الانتظار حتى طرحه في دور العرض. لكن أخطر ما في الأزمة أنها تعكس حالة «التربص»، التي تسيطر على المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، كما وصفتها في حلقة أذيعت على الهواء مباشرة من برنامج «نظرة»، الذي يُذاع عبر قناة «صدى البلد»، والرغبة المُريبة في تكريس مناخ تتعمد فيه «جماعة» من الناس إهدار القانون وتغييبه، وعدم الاعتراف بالقنوات الشرعية كأساس لرفع الظلم، في حال حدوثه، و{دكتاتورية» هذه «الجماعة» في المطالبة بالاحتكام إلى مفهومها الضيق، والسطحي، في فهم الوقائع من حولنا، وتفسير الأحداث التي تتوالى بصورة سريعة، وغير متوقعة.

أغلب الظن أن الأمر لن يتوقف عند «اختراق» الشرعية، و{انتهاك» الحرية، والجنوح الفاضح للقمع والاستبداد، وإرهاب الفن باسم الدين، كما حدث في واقعتي «عبده موتة» و{المُلحد»؛ ففي انتظارنا في المقبل من الأيام أحداث وحوادث أكثر صعوبة ستعكس حجم التطرف الذي وصل إليه المجتمع المصري، لكن شيء لا ينبغي أن يُثنينا جميعاً عن مواجهة شتى أشكال التطرف، وفضح أصحاب الرؤى الرجعية، والمواقف المتزمتة، الذين يلجأون إلى الصوت العالي، ورسائل التهديد الإلكترونية، والإعلامية، للإيحاء بأنهم هيمنوا على المجتمع، وأحكموا قبضتهم على شرائحه؛ فالاستسلام للأمر الواقع يُشجع الواحد منهم على المُضي في غيه، وتأخذه العزة بالإثم، والغرور بادعاء العلم بالدين والدنيا، بينما تفضحهم المواجهة، بالحجة والمنطق، وتكشف حجمهم الحقيقي، وتوقفهم عند حدهم، قبل أن تُقنع الجميع بتهافت خطابهم الديني والإعلامي!   

 «المُلحد» في أزمة بالفعل، إذا كانت التهديدات حقيقية، ولم تكن من نسج خيال المنتج، كنوع من الدعاية الفجة، التي يلجأ إليها بعض المنتجين للترويج لأفلامهم؛ فالمطاردة لن تنتهي، والبلاغات الكيدية والثأرية لن تتوقف، وربما تصل إلى درجة «التصفية المعنوية» إذا لزم الأمر!