إذا كان العنوان عتبة النص، فإن عنوان رواية الكاتب الكويتي عبدالوهاب الحمادي الأولى "الطير الأبابيل"، الصادرة عن دار "مدارك" للنشر في طبعتها الأولى 2012، بعدد 313 صفحة من القطع المتوسط، جاء مقترناً بلوحة غلاف، وشت بعوالم كثيرة من الرواية، بدءا من حادثة 11 سبتمبر 2001 والاعتداء على برجي التجارة العالميين، مروراً بوجود الأنثى، السر الأجمل والأكثر إظلاماً في حياة البطل، وانتهاء بانفجار الواقع واشتعال رأس الأنثى بالنار، والطير الأبابيل.

Ad

إن انتشار جنس الرواية الطاغي، وتهافت قراء العالم عليها، جعل من محاولة طرق عوالمها عملية مغرية وجاذبة، خاصة بالنسبة لجيل الشباب، الذي يرى في تجاربه الخاصة، وقدرته على الحكي، وتمكنه من اللغة، مداخل أساسية لكتابة روايته الأولى، ولا أظن أن عبدالوهاب الحمادي، كان بعيداً عن ذلك.

تنهض الرواية كاملة على صوت الراوي العليم بصيغة ضمير الغائب، وهو راوٍ يراوح في سرد حكايته الحاضرة، لكنه ما يلبث أن يغادر الزمن الحاضر، زمن القص، عائداً إلى الوراء، لرواية حكايات أخرى، حدثت في أزمان سابقة، لكنها ما زالت حاضرة في القلب والذكرى، وترمي بظلالها على اللحظة العابرة.

بطل الرواية "فهد" يأخذ القارئ إلى أكثر من رحلة بالمعنى الحرفي للكلمة، وأكثر من حكاية. فهناك قصته مع حبيبته "نجلاء، وقصته مع زوجته "منيرة"، وقصته مع أصدقائه في الكويت، وقصة حياته وعذاباته واعتقاله في سجون أميركا، وقصته وعائلته وما جرى عليهما أثناء فترة احتلال النظام الصدامي للكويت عام 1990، وأخيراً قصة ترحيله إلى معتقل غوانتانامو. وهذه العوالم تأتي جميعها على لسان سارد عليم، يتخذ من الزمن اللحظي محطة ينطلق منها إلى نقلات زمانية، يعتمد فيها عبدالوهاب على تقنية تذكّر بطله لخيط حكاية أو حادثة في نهاية فصل ما، ليبدأ بها فصلاً جديداً لاحقاً.

إن قارئ الرواية يلاحظ ومنذ الصفحات الأولى انفتاح شهوة عبدالوهاب الحمادي على الحكي من ناحية، وثراء لغته من ناحية ثانية. وإذا كانت الرواية كجنس أدبي تقوم على بثّ حكاية مشوِّقة ومتشعبة ومحكمة السبك في زمن أفقي، يحاكي مصائر بشر يلوحون كأصدق ما يكون فنياً، حتى ليشعر القارئ بأنه يضيف خبرة حياة جديدة لحياته، فإن عبقرية الروائي تتجلى في قدرته على اختيار ما يجب قوله، والوقوف عنده، وسرده بلغة مكثفة قادرة على إزاحة الغطاء عن حوادث الواقع الإنساني وتعريته، وإظهار نتوءاته التي قد لا تقف عندها العين البشرية في زحمة الحدث اليومي العادي، لكنها تنبهر بها لحظة تراها مبثوثة أمامها فنياً في الرواية كأجمل وأوضح وأغنى ما يكون المعنى.

كنتُ ولم أزل أنظر إلى الرواية بوصفها حياة مجاورة لحياة الواقع، لكنها حياة تقوى على رفع صوتها وقول ما يجبن الواقع عن قوله. ويمتلك أبطالها فنياً شجاعة تمكنهم من الإتيان بأفعال يعجز عنها أناس الحياة الواقعية، كونها تخرج على قوانين الواقع. ومن هنا فإن قراءة الرواية في جزء منها هي معايشة مغامرة دون مخاطرة، وهي العيش في حياة كان بعض القراء يتمنى لو أتيحت له فرصة معايشتها. لذا فكتابة رواية، يعني بشكل أو بآخر خلق وكتابة حياة كاملة، وهذا بالضرورة يتطلب وعياً معمّقاً بمنعطفات الحياة، ووقوفاً متملياً في العابر من أمورها، ومحاولة استبطانه واستخراج ما ينطوي عليه من سرٍّ عميق، لا يدركه إلا من منح نفسه للكتابة بوصفها ضوء كاشف لبؤر الحياة المظلمة.

رواية "الطير الأبابيل" للكاتب الشاب عبدالوهاب الحمادي، تبشر بميلاد كاتب روائي، ينتظره الكثير من عناء الكتابة المبدعة، ويُنتظر منه الكثير المبدع.