يختلف معنى تدويل قضايا حقوق الإنسان، حسب قائله، وحسب فهمه له، وحسب طبيعة النظام والسلطة التي يدور الحديث عنها.

Ad

ففي البلاد القمعية أو شبيهاتها، فإن التدويل بالنسبة إلى السلطة ومَن يساندها، يعني استقواءً بالخارج، وتدخلاً في الشؤون الداخلية، وخرقاً للسيادة الوطنية، وبالتالي فإن من "يسعى إلى التدويل" فهو طابور خامس، وكأن الطوابير الأربعة السابقة محددة بالأساس! أما بالنسبة إلى مَن تعرض للظلم بالحبس أو الاعتداء الجسدي، أو المعنوي من السلطة، دون أن يتمكن من إيقاف ذلك الأذى  بالوسائل "القانونية" محلياً، فإن "التدويل" قد يعني له أداة ضغط ضد سلطة ظالمة. الحقيقة هي أن كلا المنظورين غير صحيح. كيف؟ ابتداءً فإنه لا يوجد اتفاق على المقصود بمفهوم التدويل، والأهم هو أن قضايا حقوق الإنسان لم تعد محلية بل صارت دولية منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر 1948، وأن كل ما جرى ويجري من صراع في هذا المضمار لا يعدو عن كونه صراعاً حول، إن كانت كرامة الإنسان هي قيمة دولية أم محلية، ولم يتأخر استقرارها كمفهوم دولي إلا بسبب الحرب الباردة، التي وضعت أوزارها في 1989 برمزية سقوط جدار برلين. ومنذ ذلك الحين بدأت فكرة عالمية حقوق الإنسان تسترجع شيئاً فشيئاً ما فاتها من زمن ضائع، لتطرح نفسها ضمن الأفكار الكبرى التي تصوغ الفكر الإنساني، وتحدد معالم قادمة للرأي العام العالمي، وهي تكسب كل يوم أرضاً جديدة. وقد بلغت قوتها المرجعية حداً حتى إن أولئك غير المقتنعين بها صاروا مضطرين إلى استخدامها، فصارت غطاءً مرجعياً مشروعاً لمعظم دعاة التغيير. ولم يعد ممكناً التصدي لهذه الثقافة الصاعدة بمجرد حجج سياسية تقليدية. يضاف إلى ذلك ظهور المؤسسات الجديدة، كمجلس حقوق الإنسان، والمراجعة الدورية الشاملة، والمحكمة الجنائية الدولية، وتعزيز الإجراءات الخاصة، وصعود قدرات المنظمات الدولية غير الحكومية، حتى صارت قوة فاعلة في تشكيل الرأي العام العالمي. وصارت مسألة تدويل القضايا الداخلية أمراً من الماضي، وأصبحت الدولة التي تحتج بسيادتها منعاً لبحث انتهاكات حقوق إنسان تحدث على أرضها دولاً تعيش زمن الحرب الباردة، وكذلك يفكر بذات الطريقة الإنسان الذي يريد "تدويل" قضية ما، لأن كل القضايا صارت "مُدوَّلة" بالضرورة، أما كيف؟ فذلك ما سنفحصه لاحقاً.

وللحديث بقية