مهما أنكر المنكرون، وجحد الجاحدون حباً لمصر أو كرهاً لها، فستبقى مصر نبع الحضارة العربية الحديثة، منذ بداية القرن التاسع عشر، حتى الآن، وستبقى مصر ثدي الحداثة العربية، الذي إن بحث العرب عن ثدي حداثي آخر ليرضعوا منه، فلن يجدوا غير الثدي المصري المدرار، ولعل مظاهر هذه الحداثة، وتلك الليبرالية، قد بدأت منذ تولّي محمد علي باشا حكم مصر عام 1805، والقضاء على فلول المماليك، والولاة العثمانيين الذين حكموا مصر طيلة أكثر من خمسة قرون، من الجهل والخوف والظلام، فمصر، هي أول من قال بالديمقراطية، والحياة البرلمانية في عهد الخديوي إسماعيل. ومصر، هي من نادى بالليبرالية والحداثة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن ديانتهم، فتمَّ تعيين بطرس غالي باشا القبطي، رئيساً للوزراء، في 1908، وهو أول رئيس وزراء مسيحي، يُعيَّن في هذا المنصب في تاريخ العالم العربي كله.
وعندما أطلق الورداني النار على بطرس باشا وقتله، أنشد أمير الشعراء أحمد شوقي:بني القبط إخوان الدهور رويدكم هبوه يسوعاً في البرية ثانياتعالوا عسى نطوي الجفاء وعهده وننبذ أسباب الشقاق نواحياألم نكن من قبل المسيح ابن مريم وموسى وطه نعبد النيل جاريا قبطيان في منصبين رفيعينولم تكن هذه هي المرة الأخيرة، التي يتم فيها تعيين مسؤول كبير كرئيس الوزراء بطرس باشا غالي، إنما تكررت هذه الظاهرة مرة أخرى دعماً لليبرالية المصرية، فعندما فاز سعد زغلول بانتخابات عام 1924، وشكَّل وزارته من ثمانية وزراء، اقترح أن يكون ثلاثة منهم من الأقباط، وأن يكون أحدهم وزيراً قبطياً للعدل "الحقانية". ولكن الملك فؤاد آنذاك، استبعد ذلك، لوجود محاكم شرعية إسلامية، ولكن الليبرالية المصرية لم تتأكد آنذاك على المستوى السياسي الواقعي، مثلما تأكدت في الثقافة المصرية الراقية، والتي قرأنا جزءاً مهماً منها في أدبيات أستاذ الجيل، وأبي الليبرالية المصرية أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعلي عبدالرازق، ومصطفى عبدالرازق، ومحمد حسن الزيات، ومجموعة كبيرة من الليبراليين "الشوام"، الذين هاجروا من بلاد الشام إلى مصر هرباً من الاضطهاد والقمع العثماني."أزمة الليبرالية العربية... نموذج مصر"وتأكيداً لإدرار الثدي الليبرالي المصري، قامت الدكتورة هالة مصطفى، رئيسة التحرير السابقة لمجلة "الديمقراطية" التي تصدر عن دار "الأهرام"، والتي تولى رئاسة تحريرها، قبل أيام (8/8/2012) بدلاً منها بشير عبدالفتاح، بنشر كتابها (أزمة الليبرالية العربية... نموذج مصر) إلى جانب كتاب رفعت السعيد "الليبرالية المصرية". وهذا الاهتمام المتعاظم، من قبل المثقفين المصريين، إضافة الى ما كتبه ويكتبه المثقفون العرب، شارحين ومؤرخين لليبرالية المصرية، يدلنا دلالة واضحة على مدى أهمية الحركة الليبرالية المصرية، وأثرها في الليبرالية العربية عامة.وهالة مصطفى في كتابها المذكور تسأل أسئلة مهمة، منها:هل التحول الديمقراطي في العالم العربي، سيضمن الحريات المختلفة؟ وما دور الليبراليين، في بناء ديمقراطية المستقبل؟ وهل هناك مكان لليبرالية، في العالم العربي؟ويرى الباحث إسلام جاد الله، أن هالة مصطفى، تعتبر التجربة الليبرالية المصرية هي الأبرز، في المنطقة العربية، ولذا، فقد اختارتها المؤلفة كنموذج أو "كدراسة حالة" Case-Study- بحكم تأثيرها الواسع في محيطها الإقليمي- لقياس مدى نجاح التجربة الليبرالية في العالم العربي، وأكدت المؤلفة في الفصل الثالث من كتابها، أن مصر عرفت أول تجربة لبناء الدولة القومية الحديثة في بداية القرن التاسع عشر، والذي أسس لأهم تجربة ليبرالية عربية، تمثلت بوضع أول دستور ليبرالي في المنطقة في عام 1923، وهو الدستور الذي ظلت مبادئه الأساسية في الحرية، والمساواة، واحترام الفرد، وعدم التمييز، مصدر إلهام لأغلب التشريعات، والمواد التي تضمنتها الدساتير اللاحقة في هذا الخصوص، وهو ما أكده أيضاً رفعت السعيد، في مواضع مختلفة من كتابه "الليبرالية المصرية". ولكن هالة مصطفى في كتابها، كانت أوضح من رفعت السعيد في الإشارة الى الريادة الليبرالية لمصر في العالم العربي.جهد الأفراد في الليبرالية المصريةفهالة مصطفى، في كتابها "أزمة الليبرالية العربية... نموذج مصر"، استطاعت أن تكشف لنا بوضوح- كما يقول إسلام جاد الله- عن أن المساهمات الفردية التي قام به الليبراليون المثقفون، من أمثال طه حسين، كان لها أثرٌ أبعد من الأثر الذي أحدثته ثورة 23 يوليو 1952، ورجالها. وأن قوة الأفكار الليبرالية في مصر انتشرت في مصر، وفي العالم العربي كذلك، عبر المساهمات الفردية، ربما أكبر بكثير، مما انتشرت به عبر المؤسسات السياسية والحزبية، بحكم الانقطاع الذي شهدته الحقبة الأولى، بعد قيام ثورة 1952، والتي بانتهائها انتهت معها المؤسسات الدستورية والليبرالية التي أقامتها، ولذلك، بقي دور الأفراد هو الفارق الحقيقي الذي حافظ على قوة الأفكار الليبرالية، ونشرها من جيل إلى جيل.وعرضت المؤلفة نماذج من مساهمات رموز ورواد النهضة والليبرالية، وهي أسماء تمَّ اختيارها بشكل انتقائي بحكم الأثر الكبير، الذي تركه هؤلاء، في دعم ونشر قيم الحرية والليبرالية كرفاعة الطهطاوي، ومحاولته تقديم نظرية جديدة في الحكم والسياسة، تجمع بين التراث الإسلامي والفكر الحديث، وأحمد لطفي السيد، وصياغة نموذج مصري من الليبرالية، وعلي عبدالرازق، وتأصيل العلمانية في الفكر الإسلامي، وطه حسين، مؤسس الديمقراطية الليبرالية، وهو ما فعله رفعت السعيد في كتابه، ثم قدمت المؤلفة– كما يقول جاد الله- ومضة فكرية جديدة، حين ختمت هذه النماذج بالأديب نجيب محفوظ، حيث رأت أن مبادئ الليبرالية، ظلت المدرسة الفكرية التي تُشكِّل مرجعيته الأساسية في إعلائه لقيمة الحرية، والفرد، والعلمانية، والديمقراطية، وهي التي شكَّلت عالمه الروائي.ما مستقبل الليبرالية؟بالنسبة إلى مستقبل الليبرالية في مصر، وفي العالم العربي بعد ثورة 25 يناير، فالمهم هو ما ستبنيه ثورة 25 يناير، وليس ما هدمته، فالهدم سهل، ولكن البناء هو الصعب.فالإطاحة برأس النظام، لا تعني زوال النظام القديم، إذ إن أجهزته وآلياته، لا تزال قائمة، وتعمل، كما سبق أن قال نيلسون مانديللا في رسالته إلى الثوار العرب، وربما تحاول هذه الأجهزة والآليات– في بعض الأحيان- إعادة العجلة إلى الوراء إن استطاعت، ومن هنا، تأتي أهمية وخطورة المرحلة الانتقالية، في المستقبل القريب.ولكن مستقبل الليبرالية لن يتحقق– على أي حال- إلا بإكمال الخطوات التالية:1- قيام التيار الليبرالي المؤمن، بالتحديث والحريات الفردية، إلى التواصل مع ثقافة العصر.2- قيام التيار الليبرالي، بالتواصل مع التراث الحضاري الإنساني المشترك.3- الانتظام في تجمع سياسي عريض، يضم الليبراليين من الشخصيات المستقلة، في مختلف مجالات تخصصاتها العملية، جنباً إلى جنب مع الأحزاب الليبرالية القائمة.4- الانتظام في أي تجمعات ليبرالية جديدة، تجنباً للفرقة، أو التنافسات الجزئية، والمرحلية.5- إيجاد تمثيل قوي للتيار الليبرالي، لإحياء التعاليم والمبادئ الليبرالية الراسخة، في مصر، منذ حقبتها الليبرالية الأولى. * كاتب أردني
مقالات
الرضاعة العربية من ثدي الليبرالية المصرية!
22-08-2012