احتفل محرك البحث «غوغل» بالذكرى 150 لولادة «أمير الرسامين» الفنان النمساوي الراحل غوستاف كليمت في 14 يوليو 1862، وهذه ليست المرة الأولى التي يحتفل فيها بهذا الرسام، فالعاصمة النمسوية فيينا، اعتبرت أن سنة 2012 هي سنة فنانها المشهور، وهي تعتبره رمزها القومي.

Ad

تنظم المتاحف الرئيسة في فيينا ما لا يقل عن تسعة معارض لأعمال غوستاف كليمت، أحدها يتناوله كفنان ديكور في بورغثياتر، إضافة إلى متحف «بلفيدير»، وصولاً إلى رسومه التي لم تنل قسطاً وافياً من الشهرة. ويلقي متحف ليوبولد الضوء على حياته الخاصة من خلال مجموعة من الرسائل، فيما ينظم متحف الفنون الجميلة زيارات لأعمال الديكور التي أنجزها كليمت وتلامذته، في درج المبنى الرائع. وتفتح أمام الزوار أبواب فيللا أنجز الفنان ديكورها قبيل وفاته.

أسس كليمت مطلع القرن العشرين، إلى جانب مواطنه إيغون شيله (1890-1918)، حركة «يوغنستيل» وحركة «الانفصال» التي كانت مقدمة للحركة التعبيرية الألمانية. اهتم كليمت بشكل رئيس بموضوع جسد الأنثى والإيحاء العميق، وأعماله تتميز بعرض إثارة جنسية بشكل صريح وهذا أكثر ما يتجلى في «اسكتشات» (رسومات بواسطة الأقلام فحسب) كثيرة له. هذه المواضيع الأنثوية، سواء كانت حادة الوضوح أو المبهمة منها تحوي صور عراة دائماً وتُظهر وعياً عالياً حتى في نهاية هذا القرن.

إلى جانب الرسم، كان كليمت فنان ديكور، وشارك في إنشاء مشاغل «فينر فيركشتيتي» (مشاغل فيينا 1903-1932) مع المهندسين المعماريين الذين اشتهروا في عصره أوتو فاغنر ويوزف هوفمان وأدولف لوس، فضلاً عن الرسام وفنان الديكور ومصمم فنون المائدة كولومان موزر.

أمضى كليمت معظم حياته في فيينا، وأشهر لوحاته هي «القبلة». يمكنك رؤيتها الآن في «بلفيدير» في فيينا. غيرت هذه القبلة المزاج الفني حول العالم، وهي تزين أوشحة ومزهريات وأكواب شاي ومظلات وأقلام وقرطاسية وشمعدانات، والتي تباع في النمسا، وتعتبر بعد مماته أحد أفضل وسائط الميديا التي تروج لمدينة فيينا.

لا يتردد بعض نقاد في تصنيف «القبلة» ضمن أفضل خمس لوحات في تاريخ الفن التشكيلي العالمي كله. وقد أصبحت هذه اللوحة رمزاً للأمل ومرادفاً للجمال الأنثوي والانجذاب العاطفي بين الجنسين. في «القبلة»، كما في أعمال كليمت الأخرى، ثمة استخدام لافت للألوان الداكنة والخلفيات الذهبية والخطوط الزخرفية والعناصر الأيروتيكية والأيروسية حيث المرأة تبحث عن نفسها من خلال اللوحة، مع ميل من كليمت إلى تخليد مشهدية اللمس والرقة.

في لوحات كليمت، يتغلب الشكل على كل شيء. ويعزى النقاد ولع الفنان باللون الذهبي إلى تأثّره بالفنّ البيزنطي حيث يعتبر هذا اللون رمزاً لكل مقدّس ورصين وفخم. تتداخل مع الذهبي الزخارف المثلثة والفراغات الفرعونية والثنايات اليابانية وثراء الذهب البيزنطي ونجد أيضاً في مجمل اللوحة بزخارفها وفراغاتها تلك العصرية الممتدة إلى يومنا هذا.

وتذكّر لوحاته بعصر فيينا الذهبي. فكان كليمت إحدى الشخصيات المحورية في أوساط الفن في العاصمة النمسوية عندما كانت تشكل مع باريس وبرلين أحد المراكز الثقافية والفنية في أوروبا، مع شخصيات مثل سيغموند فرويد، والمهندسين المعماريين أدولف لوس، وأوتو فاغنر، أو الرسام إيغون شيله.

الملهمة العظيمة

أميلي فلوغي هي صاحبة الوجة الأشهر في لوحات كيلمت وتمثل جوهر الجمال والحداثة في فيينا. من هي هذه المرأة، وكيف وصل إليها كليمت؟ تقول الرواية إن كليمت كان قد أنجز الكثير عندما قابل إميلي وعائلتها. وكان وشقيقه إرنست وطالب آخر قد أسّسوا مجتمعين شراكة ناجحة وكُلّفوا برسم لوحات لمسرح بورغ الذي كان قد أعيد بناؤه. وعندما انتهت اللوحات، مُنحوا وسام الاستحقاق الذهبي من الإمبراطور فرانز جوزيف.

وقد تزوّج ارنست كليمت من «هيلين» شقيقة اميلي في عام 1891. وبعد فترة وجيزة بدأ غوستاف كليمت علاقته الطويلة مع اميلي المرأة التي صارت ملهمته بامتياز وباتت مصدراً لكثير من الكتابات الأدبية، وهي لم تكن ملهمة كليمت فحسب بل كانت واحدة من ألمع مصمّمي الأزياء في فيينا بين عامي 1904 و1938، وأسّست دار الأزياء الخاصّة بها عام 1904 بالتعاون مع شقيقتيها هيلين وبولين وكليمت نفسه.

لم يستطع كليمت أن يقول نعم لامرأة واحدة بحسب إحدى المدونات العربية. مع ذلك، يقال إنه كان أباً لـ 14 طفلاً على الأقل. ربطته قصص حبّ مع نساء كثيرات من الطبقة المخملية. لكن كل هذا تغيّر في اللحظة التي قابل فيها إميلي التي كان عمرها آنذاك 12 عاماً. ويذكر دارسو سيرته أنه لو افترضنا وجود منافسة لإميلي، فلا شكّ في أنها كانت ألما شيندلر التي كانت في سنّ التاسعة عشرة عام 1898 وكان كليمت مفتوناً بها، غير أن والدها سارع إلى كبحه وأبعده عنها.

ظهرت إميلي في عدد من الصور الفوتوغرافية التي التقطها لها كليمت عام 1906. في يوليو 1908، أخبرها أن البورتريه الذي رسمه لها تمّ شراؤه، وقد وبّخته والدته على بيع البورتريه وأظهرت سخطها وألزمته بأن يرسم بورتريهاً آخر بأسرع وقت ممكن. لكن كليمت لم ينفّذ طلب والدته أبداً.

وعلى رغم الضجيج الكثير الذي يحيط بعلاقة كليمت وإميلي، إلا أن معظم مؤرخي الفن يعتقدون أنهما لم يكونا عاشقين. والمراسلات التي كانا يتبادلانها توحي بأن العلاقة بينهما كانت أفلاطونية إلى حدّ كبير. والرسائل الـ400 التي تبادلاها معاً والمعروضة في متحف ليبولد تبرز شخصية متحررة وهادئة. كان يرسل لها أحياناً ثماني رسائل في اليوم هي مجرد ملاحظات، أو مشاهدات، كان يصف فطوره، أو يشتكي من إصابته بالزكام.

وتظهر صور خلال عطلة الصيف الفنان الذي كان يرتدي دائماً لباساً بالياً، بشعره المشعث، وببسمته الماكرة، وهو يحمل قطة بين ذراعيه.

كانت اميلي فلوغي المرأة الوحيدة التي استطاعت ترويض جموح كليمت في تلك الأوقات الصعبة. وكانت في الوقت نفسه ملهمته وطبيبته التي خفّفت عنه آثار نوبات الاكتئاب التي كان يعانيها. البورتريه الذي رسمه لها يقدّمها كأيقونة من جمال مذهّب. وكان عملاً راديكالياً بالنسبة إلى عصرهما، وربّما لهذا السبب لم تحبّه إميلي كثيراً ولا عائلتها.

آديل بلوخ باوير

بورتريه «أديل بلوخ- باوير الأولى» التي رسمها كليمت عام (1907) إحدى أغلى اللوحات في العالم. بيعت عام 2006 بـ135 مليون دولار في الولايات المتحدة، وكانت قد أثارت ضجة في قضية ملحمية في وقت سابق... ما هي قصة آديل هذه؟ في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين كان يعيش في فيينّا تاجر يهودي اسمه بلوخ باوير. وكانت له زوجة ارستقراطية متحررة اسمها أديل، لطالما أحيت في قصرها المناسبات والحفلات المختلفة وأحاطت نفسها بأعيان المجتمع من ساسة وأدباء وفنّاني وموسيقيي ذلك الزمان، وعلى رأسهم الموسيقي ريتشارد شتراوس والرسّام غوستاف كليمت.

كان بلوخ باوير يحبّ زوجته كثيراً وقد عاش الاثنان حياة مستقرّة. وتعبيراً عن محبّته لزوجته، كلّف بلوخ باوير صديقه كليمت برسم بورتريه لها. رسم كليمت اللوحة التي استغرق إنجازها ثلاث سنوات. وفيها تظهر أديل بلخ باوير بمظهر المرأة الفخورة والمعتدّة بنفسها. لم يكن مقدّراً لحياة الرفاهية والنعيم التي عاشها الزوجان بلوخ باوير أن تدوم طويلاً. فقد توفّيت أديل فجأة بالحصبة وعمرها لا يتجاوز الثالثة والأربعين. وكانت قبيل وفاتها قد أوصت بأن تؤول ملكية اللوحة بعد وفاة الزوج إلى حكومة النمسا.

لكن بعد وفاة الزوجة بسنوات قليلة، نشبت الحرب العالمية الثانية فجأة، واكتسحت القوّات الألمانية النمسا واحتلت أراضيها. ولأن بلوخ باوير كان على رأس قائمة المطلوبين باعتباره يهودياً، فقد سارع بالفرار إلى سويسرا كي ينجو بنفسه، وصادر النازيّون جميع ممتلكات عائلته ثم وزّعوها في ما بينهم كغنائم حرب ومن ضمنها لوحة زوجته. ومرّ وقت طويل تغيّرت خلاله الكثير من الوقائع والأحوال. فقد عادت اللوحة بعد انتهاء الاحتلال الألماني إلى عهدة حكومة النمسا تنفيذاً لوصيّة المرأة. لكن في ما بعد ظهرت الوريثة الوحيدة التي بقيت من هذه العائلة، وهي امرأة عجوز كانت قد لجأت إلى الولايات المتحدة ووجدت فيها وطناً ثانياً بعد أن تشردّت العائلة وتوزّعت في المنافي. ورفعت المرأة، وهي ابنة شقيقة أديل، قضيّة أمام المحاكم تطالب فيها بإعادة اللوحة إليها باعتبارها الوريث الوحيد لعائلة بلوخ باوير.

وبعد معركة قانونية، أصدرت المحكمة أمرها بإلزام حكومة النمسا بإعادة اللوحة إلى المرأة التي يناهز عمرها اليوم التسعين عاماً. وباعت المرأة اللوحة لأحد غاليريهات مانهاتن بمبلغ 135 مليون دولار لتصبح بذلك ثالث أغلى لوحة في العالم.