فجر يوم جديد: ما هكذا توردُ الإبلُ

نشر في 05-10-2012
آخر تحديث 05-10-2012 | 00:01
 مجدي الطيب فور أن يُغيب الموت فناناً من أصحاب الحظوة، والموهبة والعطاء، تُسارع الصحف إلى دبج المقالات التي تتغنى بمآثره، والرصيد العظيم الذي تركه، والخسارة الفادحة التي تنتظرنا في أعقاب رحيله. وقتها، وباستثناء اسم «الفقيد» الذي يتغير، تكاد تتكرر الكلمات نفسها والمصطلحات والعبارات من عينة: «فقدت مصر والأمة العربية رمزاً من الرموز المضيئة في تاريخ السينما العربية... رحل أهم فناني جيله... صاحب الحضور الطاغي والملحمة المليئة بالنجاحات التي يصعب تكرارها في الزمن الحالي. رحل فريد عصره وعلامته الفارقة... عُرف بالتزامه وكان مثالاً يُحتذى وبطلاً تراجيدياً ما زالت صورته كإنسان وفنان موشومة في قلوب محبيه».

تفعل الصحف ذلك، وتجاريها وسائل الإعلام كافة، في حال كان «الفقيد» ذائع الصيت وكبير القيمة والمكانة، بينما يمر الموقف بهدوء مخز إذا كان الأمر يتصل برحيل فنان ينتمي إلى طبقة المهمشين؛ إذ يكفيه خبر لا يتجاوز السطور في مكان منزو في جريدة متواضعة ومهجورة.

في أحيان كثيرة، وددت لو أن الظروف أتاحت للفنان «الراحل» قراءة بعض ما كتب عنه من قصائد مديح وإطراء في حياته، بدلاً من أن تنعيه لأهله ومحبيه بعد أن وري الثرى؛ فأكبر الظن أن كلمات الثناء التي أشرنا إليها في السطور الأولى كانت ستنعكس إيجاباً على الحالة النفسانية للفنان، وهو في عزلة المرض أو الزهد نتيجة اليأس من تراجع العروض وضياع البريق، على عكس ما يحدث الآن من تجاهل قاتل يُعجل بالموت، ويدفع الفنان إلى إبداء الندم على العمر الذي ضيعه في مجال أهدر كرامته، ولم يحفظ ماء وجهه قبل أن يلفظ النفس الأخير.

في كل الأحوال، ينبغي أن تختلف نظرتنا لتكريم موتانا من المبدعين السينمائيين، وبدلاً من أن ننعيهم بالكلمات التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، علينا أن نكرم منجزهم بتنظيم الأسابيع السينمائية التي تعرض أفلامهم، وعقد الندوات التي تعمل على تقييم موهبتهم، وتقدير حجم ما قدموه من عطاء للمهنة والمجتمع. والأهم، أن نجمع تراثهم ونبادر بترميم التالف والهالك منه، وليتنا ننجح في حثّ الكتّاب والنقاد على توظيف ملكاتهم لرصد مسيرة الراحلين، والإسهام في نشر الكتب التي تقيس حجم ما كانوا يتمتعون به من قدرة على الإبداع.

هكذا يُكرم الفنان عقب رحيله عن دنيانا، بدلاً من الإشادة به لحظة الرحيل، وتأبينه في ذكرى الأربعين، ثم يطويه النسيان طوال السنين. فأين نحن اليوم من فريد شوقي ورشدي أباظة وأحمد زكي وسعاد حسني وغيرهم من الفنانين العظام الذين كانوا ملء السمع والبصر ثم انصرفنا عنهم، وأودعناهم الصندوق الأسود المسمى «الذاكرة».

لقد قيل الكثير عن نجومنا، عندما كانت دماؤهم الطاهرة ما زالت ساخنة، وتسابقنا للحديث عن مآثرهم ومناقبهم، ونحن نحمل نعوشهم إلى قبورهم، ومع الدموع التي ذرفناها عليهم، انطلقت الوعود بإطلاق أسمائهم على الشوارع التي قطنوها، فضلاً عن المسارح وقاعات المحاضرات في معاهد السينما، والأكاديميات التي شهدت ميلادهم، وبالغ البعض بالدعوة إلى إقامة تماثيل لهم في الشوارع والميادين، التي عاصرت تألقهم، وبمجرد أن تبرد الدماء وينتهي السامر، وينفض غبار الحزن، الذي يولد كبيراً ويصغر مع الأيام والأعوام إلى أن يتلاشى، ننسى الوعود البراقة وتعود الحياة إلى دورتها الطبيعية، وربما لا نتذكر قراءة الفاتحة على أرواحهم.

على الجانب الآخر من عالمنا، ابتكروا في هوليوود طريقة فريدة للاحتفاء بالنجوم وتخليد ذكرى المشاهير، بأن حفروا على الرصيف الجانبي لما يُعرف اليوم باسم «ممشى المشاهير في هوليوود» نجوماً خماسية تحمل أسماءهم، ورموزاً تُشير إلى مجال تميزهم في السينما والتلفزيون والإذاعة والمسرح والعروض الموسيقية والغنائية الحية، فضلاً عن كتاب الأغاني. ولم يقتصر التخليد على الراحلين، بل كان للأحياء نصيب من التكريم، ومن ثم تحول «ممشى المشاهير» تدريجاً إلى مزار يرتاده المحبون والمعجبون ليضعوا باقات الورود أو يُشعلوا الشموع، في ذكرى رحيل النجم.

ما أحوجنا إلى هذا التقليد الإنساني الجميل كأسلوب حياة، ووسيلة لتكريم نجومنا ومشاهيرنا... وما أكثر شوارعنا التي تصلح لأن تتحول إلى «ممشى».

«ما هكذا توردُ الإبلُ» مثل عربي قديم يُضرب لمن قصر في الأمر أو في طلبه أو لم يقم بأداء واجبه حيال ما هو مُكلف به أو ما هو مسؤول عنه، وأكبر الظن أننا في حاجة إلى إعادة النظر في كثير من أمورنا الحياتية لنتدارك أخطاء ارتكبناها، ومن بينها تقصيرنا في حقوق نجومنا الراحلين... والأحياء على حد سواء.

back to top