إدوارد سعيد خارج مكانه (3 – 3)

نشر في 05-06-2012
آخر تحديث 05-06-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. نجمة إدريس لقد كانت علاقة إدوارد سعيد مع المدينة موزعة على أربعة أمكنة: القدس، القاهرة، ضهور الشوير (لبنان)، الولايات المتحدة. أما القدس فلم تكن إلا مربعاً من مرابع طفولة غابرة، لعل فيها من السعادة والانطلاق أكثر مما فيها من الأمن والاستقرار، إذ سرعان ما زعزع البيت قدوم الاحتلال الإسرائيلي، فيممت الأسرة وجهها شطر القاهرة، لتقيم كأقلية من (الشوام) المسيحيين، ضمن حدود مدروسة، لا تتعدى صداقات الجالية والنادي والمدرسة ومتجر القرطاسية الذي افتتحه الأب. ورغم بحبوحة العيش ورفاهيته، كان هناك شعور عام بالانغلاق والتوحد، ومجانبة الحياة العامة. أما ضهور الشوير فكانت مستراحاً للعائلة في شهور الصيف، وقد وصفها المؤلف بأنها بيئة عززت لديه العزلة والمشقة، وكل ما يستجلبه الصيف الطويل من وهن وملل. وما لبث هذا البيت الصيفي أن أصبح طللاً خرباً بعد أن دُكت جدرانه إبان الحرب الأهلية اللبنانية. ثم تأتي الولايات المتحدة الأميركية كخيار أخير، حين كان في الخامسة عشرة، بعد أن أنهى مرحلة "فيكتوريا كولج" في القاهرة. فاقتضى التدرج الدراسي أن يكمل الجامعة، ثم الدراسات العليا في هارفرد. إلى أن وجد نفسه أخيراً مجبراً على قضاء باقي سنوات العمر في (نيويورك) المنفى، ليعمل هناك ويتزوج. لكن دون أن تفارقه حقيبة السفر الممتلئة بالملابس والحاجيات، وكأنه يتوقع أن يدعوه داعي السفر للعودة إلى (البيت!) في أي لحظة!

يرى إدوارد سعيد أن المسؤول الأول عن هذا الشتات المكاني والنفسي هو الأحداث السياسية التي لعبت دوراً لاإنسانياً في صياغة حياة أسرته، وصياغته هو فكرياً وعقائدياً. يقول في التقديم لسيرة حياته:

"وجدتني أروي قصة حياتي، وهو سجل غير رسمي عن تلك السنوات المضطربة التي عاشتها منطقة الشرق الأوسط، على خلفية ضياع فلسطين، وقيام دولة إسرائيل، وسقوط الملكية في مصر، والسنوات الناصرية، وحرب عام 1967، وانطلاقة حركة المقاومة الفلسطينية، والحرب الأهلية اللبنانية واتفاقية أوسلو".

هذه الإضاءة تبدو مهمة حين النظر إلى هذه السيرة من زاوية كونها توثيقاً للتاريخ المحكي، الذي غالباً ما يُشوَّش أو يسقط من الذاكرة التدوينية، بسبب غلبة المشهد السياسي وحدة خطابه، وارتباطه بالمتغيرات السياسية سريعة التقلب والاطراد. ومن هنا تأتي هذه السيرة لتسد هذا الفراغ المهول في التأريخ الشعبي / الاجتماعي، الذي يُعنى بمعاناة الإنسان في مستواها الفردي الخاص، والتي هي في النهاية عينة من معاناة الأسر الفلسطينية، التي مزقها الشتات وتوزعتها المنافي والأمكنة.

أما التوليفة الثقافية والعقائدية لفكر إدوارد سعيد، فلا تنأى بعيداً عن هذه الظروف والملابسات التي شكلته وصاغته داخل إطار هذه النفسية والتوجه. فالوجه الذي يظهر به إدوارد سعيد هو وجه المفكر المثقف الذي خبر أنماطاً من التجارب الإنسانية، كانت تتماس وتتقاطع مع سطوة الإمبريالية، ومعاداة الحريات ومصادرة الحقوق. وكذلك خبر معاني متعددة للعنصريات البغيضة، ووجوهاً عديدة للكولونالية المتعجرفة، وازدرائها للشعوب والأقليات ممن يخالفونهم في العرق أو اللون. ولعل هذا المشهد يكون معبراً عن ذلك الشعور الغائر بالألم والمرارة:

"في طريق عودتي إلى البيت عند الغسق عبر أحد الحقول المترامية الأطراف لنادي الجزيرة (القاهرة)، اعترضني إنكليزي يرتدي بذلة بنية، وهو والد رالف زميلي في المدرسة، وسألني: ماذا تفعل هنا يا ولد؟ نهرني بصوت بارد هزيل، قلت: أنا راجع إلى البيت، فترجل من دراجته وتقدم نحوي: ألا تعلم أنه ممنوع عليك أن تكون هنا؟ سأل مؤنباً. فبدأت أغمغم شيئاً عن كوني عضواً في النادي، لكنه قاطعني بلا رحمة: لا تجاوب يا ولد، غادر المكان فقط، وغادره بسرعة، ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان، وأنت عربي"!

لا غرو إذاً إن فاضت نفس إدوارد سعيد، بذلك اللون من الكتابة التي تنطلق من موقف أخلاقي وفكري، معبراً عن إيمانه بكرامة الإنسان وحريته، وأهليته للتعايش السلمي، والانفتاح على الثقافات المختلفة دون انتقاص أو استعلاء. وفي سياقات هذا الفكر، يعرّج إدوارد سعيد على نقد الأفكار الجاهزة والنمطية، في أدبيات المثقف الغربي عن المشرق، ومدى ولوغها في التضليل وبعدها عن الحقيقة، سواءً كان ذلك في آثارهم الاستشراقية وفنونهم التشكيلية عن الشرق والعرب سابقاً، أو تصويرهم للإنسان المشرقي والعربي في أفلامهم الهوليوودية حالياً، وتنميطه داخل صورة من الضعة أو الغباء أو الشبق أو الإرهاب غير المبرر. وهو فوق ذلك من أخلص المدافعين عن القضية الفلسطينية والهوية العربية، ناقلاً هذه المسألة من "المستوى السياسي الدارج إلى الوعي الثقافي الأكثر رسوخاً"، كما يقول محمود درويش.

لم يبقَ إلا أن نستنتج، ونحن بصدد الاستشراف الكلي لهذه السيرة المؤثرة، بأن العوامل التي شكلت إدوارد سعيد المفكر والإنسان، كان لها أثرها البليغ في ميلاد مفكر مختلف، استغل نقطة الضعف المؤلمة في تشييد إنجازه الخاص. سواء كان ذلك من خلال مؤلفاته المناهضة للإمبريالية الغربية التي ذاق بعضاً من مراراتها، أو في فكره الرافض للصورة النمطية للمشرقي المعفر بالدونية  وسوء الفهم لتراثه وصورته الإنسانية من قبل الغرب، أو في موقفه من القضية الفلسطينية وأمله في حل يرتكز على حفظ الحقوق والمساواة والتعايش.

إن أهمية (خارج المكان) تتبدى في كونها توثق لنموذج إنساني، يخرج من رماد آلام الشتات وارتباك الهوية، مصوراً الكدح الإنساني النبيل للحفر في صخر الظروف القدرية، التي لا يكون للإنسان فيها دور، اللهم إلا محاولات المغالبة، والفهم، والتقييم، آملاً الخروج بحصاد مثمر، وإن كانت البذور مرة.

يقول إدوارد سعيد في ختام الكتاب / السيرة:

"الآن لم يعد يهمني أن أكون (سويّاً) و(في مكاني)... (في البيت مثلاً)، بل إني لم أعد أرغب أصلاً في ذلك. خيرٌ لي أن أهيم على وجهي في غير مكاني، وألا أملك بيتاً، ولا أشعر أبداً كأني في بيتي في أي مكان، خصوصاً في مدينة مثل نيويورك، حيث سأعيش إلى حين وفاتي".

توفي إدوارد سعيد في 25 سبتمبر 2003... ولعله الآن في مكان أكرم وأجمل.

 

back to top