حاولت في أحد مقالاتي السابقة أن أحلل أسباب فوز الإسلاميين في الاستحقاقات الانتخابية التي جرت في أكثر من بلد من بلدان التغيير العربي، وقد خلصت إلى أن هناك عدة أسباب يمكن أن تفسر أسباب هذا الفوز.

Ad

من بين الأسباب التي دفعت بالإسلاميين إلى سدة السلطة في تونس ومصر مثلاً؛ أن للحركات الإسلامية تاريخاً طويلاً من العمل الوطني، الذي بذلت فيه الكثير من التضحيات، وأبدت خلاله قدراً كبيراً من الصمود والتمسك بـ"الثوابت"، وهو الأمر الذي زاد من درجة احترام قطاعات في الجمهور لها، فضلاً عن التعاطف معها.

ومن بين تلك الأسباب أيضاً القدرات التنظيمية التي اكتسبتها تلك التيارات نتيجة لعملها تحت الأرض لعقود في مواجهة أنظمة مستبدة، وهي القدرات التي مكنتها من البقاء رغم صعوبة التحديات التي واجهتها، إضافة بالطبع إلى عجز خصومها، وفسادهم، وإذلالهم لمواطنيهم، وتبعيتهم الشائنة للغرب. ومما عزز قدرات الإسلاميين على الفوز كذلك امتلاكهم للموارد المالية، التي تأتي من مصادر عديدة، معظمها، للأسف، غير معلوم المصدر، وبعضها، للأسف، ليس فوق مستوى الشبهات.

أما "الورقة الرابحة" بحق، التي عززت تمركز الإسلاميين في الواقع السياسي العربي، ومكنت بعضهم لاحقاً من الوصول إلى سدة السلطة في أكثر من بلد عربي، فليست سوى العاطفة الدينية لدى الكثير من البسطاء من العرب المسلمين، والذين، للأسف، لا يفرقون بين الإسلام والإسلام السياسي، والذين، للأسف، يعتقدون أن كل من تحدث باسم الإسلام، فإنه قادر على تحقيق رسالته، بغض النظر عن فهمه لها أو إيمانه بها.

وقد ختمت ذلك المقال المشار إليه بالقول: "يبقى أن تسيد الإسلاميين الانتخابات العربية المقبلة سيظل هو الأقرب للتحقق على الأرجح، وستظل أسباب هذا التسيد واضحة ومفهومة، لكن الإشكال الحقيقي يكمن في مدى قدرتهم على الوفاء بمطالب الجمهور الذي انتخبهم، وهو جمهور سيتوقع منهم ما هو أكثر من المعارضة اللفظية لإسرائيل والغرب، وما هو أنجع من الصدقات والمعونات، وسيقصيهم قطعاً عن السلطة في حال أخفقوا في تلبية تطلعاته وآماله الواسعة، مهما استخدموا من عواطف دينية".

ويبدو أن العبارة السابقة في طريقها بالفعل للتحقق على الأرض؛ إذ يميل الجمهور اليوم في مصر وتونس إلى معارضة تيار الإسلام السياسي الحاكم، بشكل أدى إلى تراجع القدرة التصويتية لأنصار هذا التيار بوضوح، مما ينذر بإمكانية فقدانه مستوى الدعم الذي يمكنه من الحفاظ على انفراده بالسلطة.

ويبدو أن معظم المحللين والمتابعين والمهتمين بمكانة الإسلام السياسي في مؤسسات السلطة في مصر، على سبيل المثال، باتوا متفقين على أن جماعة "الإخوان المسلمين" تخسر خسائر استراتيجية فادحة باطراد، ويبدو أنهم أيضاً يعزون تلك الخسائر إلى الدرجة المزرية من تردي الكفاءة التي أظهرتها "الجماعة" في إدارة الشأن السياسي المصري، منذ اعتلت سدة السلطة قبل نحو ستة شهور.

حينما أعلنت "الجماعة"، بعد إطاحة مبارك، أنها لن ترشح أحد أعضائها لمنصب رئيس الجمهورية، استبشرت خيراً بدرجة النضج السياسي الذي وصلت إليها، والذي ألهمها اتخاذ مثل هذا القرار الصعب والموفق جداً في آن واحد.

فالتحليل العاقل للأمور آنذاك كان يفضي بالتأكيد إلى اتخاذ مثل هذا القرار؛ فقد خرج الشعب المصري من ثورة يناير بسقف مطالب لا يحده حد، وطموح كبير إلى تحقيق إنجازات مبهرة، تليق بشعور الفخر الوطني الذي عاشه الجميع، في وقت تزايدت فيه المطالب الحيوية الخاصة بالإنفاق العام، أو تحسين أوضاع المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر أو على حوافه.

ولا شك أن "الجماعة" كانت تدرك أن تحقيق مثل تلك المطالب في فترة زمنية محدودة شبه مستحيل، خاصة أنها تعرف، أو يفترض أنها تعرف، أن موارد مصر لا تغطي سوى ثلثي نفقاتها، وهو ما يعني أن حاكم البلاد الجديد بعد الثورة سيواجه سقف المطالب المرتفع، مع نزعة التمرد الحادة، في ظل عجز مالي مزمن يزيد على 30%.

لكن "الجماعة" لم تبق على هذا الرشد طويلاً، وسارعت، بانتهازية وأنانية سياسية ورغبة عارمة في الاستحواذ، إلى المنافسة الشرسة على منصب الرئيس، رغم أنها لم تكن تملك من يصلح لهذا المنصب بالتأكيد.

ولم تكتف "الجماعة" كذلك بالهيمنة على مجلسي البرلمان المنتخبين، بل عمدت أيضاً إلى السيطرة على "الجمعية التأسيسية" المنوط بها إعداد الدستور، لتصبح مجمعاً لأكبر قدر من السلطات التي حصلت عليها قوة سياسية واحدة في مصر على مر عقود، خصوصاً بعد إطاحة قادة الجيش الكبار، وحل مجلس الشعب، وجمع الرئيس مرسي للسلطتين التنفيذية والتشريعية.

بات "الإخوان المسملون" إذن مستقرين في مقعد السلطة التي جمعت بين أيديهم أكبر قدر ممكن من الصلاحيات، في وقت تتشرذم فيه القوى السياسية المدنية أمامهم، ويعتري أداءها الضعف المعتاد، ويضطر السلفيون إلى التحالف معهم، لتحقيق مشروعهم الملتبس في مواجهة "الليبراليين الكفرة"، ولتغدو الطريق مفتوحة أمام "الجماعة" لتحقيق الاختراق، الذي يمّكن لها في حكم مصر، ويبسط نفوذها الإقليمي، ويُفعّل مشروعها العالمي.

لكن ما جرى في غضون ذلك كان مريراً وكارثياً بامتياز؛ فقد انكشف الغطاء فجأة عن "المارد المثابر المجاهد" الذي تم تكبيله لعقود، فإذا به ليس سوى مارد من ورق... اعتادت عينه على الظلام، فلم تستطع أن تبصر في النور.

لقد أخفقت "الجماعة" في تحقيق أي مطلب من المطالب الوطنية العادلة التي نادت بها ثورة يناير، بل إنها أخفقت أيضاً في إقناع الجمهور بأنها تعرف طريقاً للسير نحو تحقيق تلك المطالب.

وزاد عدد القرارات التي سببت إرباكاً شديداً للحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، كما زاد عدد القرارات التي تم التراجع عنها بصورة غريبة في فترة زمنية قصيرة للغاية؛ مثل إعادة البرلمان ثم التراجع عن إعادته، وإقالة النائب العام ثم التراجع عن إقالته، وإصدار الإعلان الدستوري ثم التراجع عنه، وإقرار ضرائب جديدة ثم التراجع عنها، واستقالة النائب العام ثم التراجع عنها.

يريد "إخوان مصر" تمرير دستور ساقط سياسياً وهزيل قانونياً للتمكين لحكمهم، وفي المقابل فإنهم يواجهون معارضة في الشارع و"الصناديق" لم يتوقعوها على الإطلاق، حتى في أسوأ كوابيسهم.

لقد ظهر للجميع أن جماعة "الإخوان" لا تستطيع إدارة دولة بحجم مصر؛ وبات العالم بأكمله يعرف أنها لا تنطوي على قدرات أو كفاءات يمكنها أن تحقق مشروعاً وطنياً، ولا تمتلك إدراكاً أو وعياً بطبيعة العمل المؤسسي، ولا تعرف أبسط قواعد صنع القرار.

الآن تعرف دول العالم أن "الإخوان" محدودو الكفاءة، وتدرك شعوب المنطقة أنهم "لا يحملون الخير" بقدر ما يفجرون الاحتراب الأهلي، ويشعلون الأزمات.

الآن يدرك أنصار الإسلام السياسي داخل مصر وخارجها أنه ليس سوى إطار استبدادي، يسعى إلى السلطة بأي ثمن، ولا يحترم الديمقراطية بقدر ما يستخدمها لتحقيق أهدافه.

لن تؤثر خيبات الحكم "الإخواني" لمصر في مصر وحدها، ولن تنعكس أخطاء الحكم "الإسلامي" لتونس على تونس وحدها، ولكن الأمور ستمتد لتؤثر سلباً في مستقبل "الإخوان" والإسلام السياسي في المنطقة بأسرها؛ وهو أمر قد يمكننا لاحقاً من كتابة مقال تحت عنوان "لماذا خسر الإسلاميون؟"، لكن الإشكال يكمن في أن خسارتهم سوف تكبد شعوبهم أيضاً خسائر فادحة وكبيرة.

* كاتب مصري