Growing Up Bin Laden... خفايا حياة إرهابي شغل العالم

نشر في 19-07-2012 | 00:01
آخر تحديث 19-07-2012 | 00:01
أُدرج اسم أسامة بن لادن على لائحة الولايات المتحدة لأهم عشرة إرهابيين مطلوبين عام 1998. وقد تحول بن لادن إلى هدف رئيس في الحرب على الإرهاب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. طوال عقد ونيف، تردد اسم بن لادن في الصحف ووسائل الإعلام. لكن مَن هو هذا الإرهابي الذي احتاجت الولايات المتحدة إلى سنوات لتقتله؟

عام 2009، قررت نجوى بن لادن، زوجة بن لادن الأولى وابنة خاله وأم أحد عشر من أولاده، وابنه عمر سرد القصة وراء هذا الإرهابي، بمساعدة الكاتبة جين ساسون. فضمنوا كتابهم Growing Up Bin Laden تفاصيل الحياة الشخصية لأسامة بن لادن الصبي، الشاب، الزوج، الأب، والإرهابي، تفاصيل لطالما حرص أسامة ألا يكشفها للعلن. إليكم مقطعاً من هذا الكتاب المثير للاهتمام.

نجوى بن لادن: شبابي

لم أكن دوماً زوجة أسامة بن لادن. كنت ذات مرة طفلة بريئة حالمة. صارت أفكاري في الآونة الأخيرة تحملني إلى تلك الأيام الخوالي، فأتذكر الفتاة الصغيرة التي كنتها والطفولة الآمنة والسعيدة التي تمتعت بها.

سمعت بالغين كثراً يتحدثون عن طفولتهم بأسى أو أحياناً بغضب، ويعبرون عن سعادتهم لأنهم تخلصوا من سنوات صغرهم تلك. تحيرني عبارات مماثلة لأنني، لو أستطيع، أعود في الزمن إلى الجزء الأول من حياتي وأبقى فتاة صغيرة إلى الأبد. تتميز المنطقة الساحلية السورية بجمال خلاب يزيده جمالاً نسيم البحر العليل والأراضي الخصبة حيث يحصد المزارعون المحظوظون الفاكهة والخضر. انتشرت في باحة منزلنا الخلفية الأشجار الخضراء التي تدلت منها الفاكهة اللذيذة. ووراء سهلنا الضيق المحاذي للبحر علت جبال ساحلية رائعة الجمال وتلال حُوِّلت جوانبها إلى بساتين للفاكهة والزيتون.

ضمّ منزل آل غانم سبعة أشخاص. إذاً، كان منزلنا في حالة من النشاط الدائم. كنت الولد الثاني الذي رزق به أمي وأبي. وقد تمتعت بعلاقة جيدة مع أخي الأكبر ناجي وإخوتي الأصغر ليلى، نبيل، وأحمد. وكان لدي أيضاً أخ غير شقيق يُدعى علي يكبر أخي ناجي ببضع سنوات. تزوج أبي مرات عدة قبل أن يقترن بأمي، وقد رزق بعلي من إحدى زيجاته الأولى.

كان أخي ناجي، الذي يكبرني بسنة واحدة، الأقرب إلي. صحيح أنني أحببته كثيراً، إلا أنه كان مشاكساً، كسائر الصبية، وسبب لي الرعب في أكثر من مناسبة.

على سبيل المثال، أخاف الأفاعي منذ نعومة أظفاري. وذات يوم، استخدم ناجي مصروفه ليتسلل إلى البزار المحلي ويشتري أفعى من البلاستيك. ثم طرق باب غرفة نومي بكل لطف. وعندما فتحت، ابتسم لي ابتسامته الخبيثة ورمى في يدي الأفعى، التي ظننتها حقيقية. فملأ صراخي كل المنزل، فيما أوقعت الأفعى أرضاً وركضت بسرعة تخالني معها أنني أركب الهواء.

كان أبي في المنزل وأقبل بسرعة ليحل المشكلة، معتقداً أن لصوصاً مسلحين قدموا لقتلنا. وعندما أدرك أخيراً أن جنوني هذا سببه ناجي، الذي راح يستعرض الأفعى المزيفة بفخر، رمقه بنظرة قاسية وطويلة قبل أن يبدأ يكيل له التهديدات الأبوية.

لكن ناجي لم يعبأ بما قاله وراح يصرخ بصوت طغى على تهديدات أبي: «نجوى جبانة! أعلمها أن تكون شجاعة». ولو استطعنا رؤية المستقبل، حين أصبحت الأفاعي زائراً دائماً في منزلي في جبال أفغانستان، لشكرت أخي على الأرجح.

كان مكاني المفضل في منزلنا الكبير الشرفة في الطابق العلوي، فهي الموضع الأنسب لتهرب فيه فتاة صغيرة إلى عالم الأحلام. أمضيت ساعات طويلة ساحرة وأنا أستمتع على الشرفة برفقة كتاب. وكنت كلما قرأت بضعة فصول أمسك الصفحة بإصبعي وأروح أتأمل الشارع تحتي.

كانت المنازل في حيّنا متقاربة. وقد أحاطت بها مؤسسات تجارية صغيرة. أحببت مراقبة حشود الناس، الذين يحثون الخطى عابرين حيّنا، محاولين إنهاء مهامهم اليومية بسرعة لكي يعودوا إلى المنزل ويستمتعوا بأمسية مميزة يمضونها في تناول الطعام والاسترخاء مع العائلة.

تتحدر عائلات كثيرة في حيّنا من بلدان أخرى. قدمت عائلتي من اليمن، بلد بعيد قيل لنا إنه رائع الجمال. لم أعرف يوماً الأسباب الفعلية التي دفعت بأسلافي إلى الرحيل، إلا أن عائلات يمنية كثيرة هاجرت إلى دول مجاورة، حتى قيل إن الدم اليمني يجري في كامل العالم العربي. أعتقد أن الفقر كان السبب الرئيس الذي حمل أسلافنا اليمنيين على بيع قطعانهم، إقفال منازلهم، هجر حقول وعرة وقاحلة، والتخلي للأبد عن أصدقاء قدماء في بلدات ألفوا كل زاوية فيها.

أتخيل أسلافي وهم جالسون في منازلهم. يروح الرجال يتسلون بخناجرهم المقوسة ويمضغون على الأرجح ورق أشجار القات، فيما تجلس النساء بأعينهن التي زاد الكحل سوادها، ويصغين بصمت إلى رجالهن، وهم يناقشون تحديات الأراضي القاحلة والفرص الضائعة. ماتت تجارة البخور القديمة، وكان المطر متقلباً جداً ولا يُعتمد عليه لزراعة المحاصيل. وفيما مزقت آلام الجوع بطون صغارهم، قرر أسلافي على الأرجح ركوب جمالهم العالية والانتقال إلى تلك الأودية الخضراء التي تحيط بها تلال بنية عالية.

عندما وصل أسلافي إلى سوريا، أقاموا منازلهم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط في المدينة-المرفأ التي ولدت فيها وترعرعت. ورد ذكر اللاذقية قبل أكثر من ألفَي سنة، ووُصفت بأنها تحتوي «أبنية جميلة ومرفأ ممتازاً». يحدها البحر من أحد جوانبها والبساتين الخصبة من جانب آخر، ما جعلها محط أنظار كثيرين. فاحتلها الفينيقيون، الإغريق، الرومان، والإمبراطورية العثمانية. وعلى غرار كل المدن القديمة، دُمرت اللاذقية وأُعيد بناؤها مرات عدة.

إلى أن تزوجت وسافرت إلى جدة في المملكة العربية السعودية، اقتصرت حياتي على منزل العائلة، مدرستي، مدينتي اللاذقية، ووطني سوريا.

كنت فخورة جداً بعائلتي. فعندما صرت كبيرة كفاية لأفهم ما يُقال من حولي، أدركت الكلام الجميل الذي غالباً ما رُدد عن جمال عائلتي الداخلي والخارجي. صحيح أنني سررت لأن الناس يحترموننا لأخلاقنا وخصالنا الحميدة، غير أن الجانب الطفولي من شخصيتي فرح أيضاً بكل الكلام اللطيف الذي قيل عن جمال مظهرنا.

عمل والدي في التجارة، التي شكلت مصدر رزق رجال عرب كثيرين في المنطقة. لم أعرف الكثير عن حياة والدي اليومية، بما أن حضارتنا لا تبيح للفتاة أن ترافق والدها إلى العمل. لكني علمت أنه كان رجلاً مجتهداً يغادر المنزل باكراً في الصباح ولا يعود إليه إلا مساء. وقد ضمن عمله الدؤوب حياة كريمة لعائلتي. وعندما أعود بالذاكرة إلى الماضي، يُخيَّل إلي أن والدي كان يكن مكانة خاصة لفتاتَيه. فكان يعامل إخوتي الصبية بصرامة أكبر، وخصوصاً أن شقاوتهم تطلبت منه البقاء في حالة حذر دائم.

اعتادت والدتي البقاء في المنزل للاعتناء بحاجتنا الشخصية. كانت طاهية ماهرة وربة منزل قديرة. وبما أنها اضطرت لرعاية زوج، ثلاثة أبناء، وابنتين، ما كان عمله ينتهي مطلقاً. كانت تمضي الجزء الأكبر من يومها في المطبخ. لا أنسى البتة الوجبات اللذيذة التي أعدتها لعائلتها، وخصوصاً الفطور المميز الذي تألف عادةً من البيض والجبنة والزبدة والعسل الحلو مع الجبنة البيضاء والخبز والمربى. أما الغداء، فكان أحياناً حمصاً مطحوناً مطيباً بالتوابل مع مجموعة من الخضر الطازجة من الحديقة، الطماطم والخيار المقطوفين حديثاً، والباذنجان المخلل المحشو بالثوم والجوز. اعتادت والدتي تقديم واجبة العشاء نحو الساعة السابعة أو الثامنة. وغالباً ما كانت تطل علينا حاملة أطباقاً من رزها الشهي مع البازيلاء، ورق العنب المحشي، البامية، والكبة المعدة من لحم الغنم والبرغل والمطيبة بالفلفل والبصل وغيرهما من التوابل التي لا تُقاوم.

كنا أنا وأختي نساعدها في أعمال المنزل، مع أن واجباتنا بدت بسيطة مقارنة بمهام والدتنا اليومية. كنت أرتب سريري وأغسل الأطباق، وأصبح مساعدة أمي في المطبخ خلال العطل المدرسية.

تحملت أمي مسؤولية تربية الأولاد. وعندما كنت صغيرة، خفت كثيراً من قواعدها الصارمة بشأن سلوك ابنتيها في المجتمع. لا تُعتبر صرامتها هذه مستغربة في حضارتنا. فالفتيات واجهة العائلة، ومن الضروري أن يحسن التصرف دوماً. أما الأبناء، فلا بدّ من أن يتصرفوا بطيش، في رأيهم. وإن حدث أن أساءت فتاة صغيرة التصرف، واجهت العائلة برمتها العار في أعين المجتمع. ولو ارتبكتُ حماقة كبيرة، لصعب على أهلي أن يجدوا عائلة ترضى بأن يتزوج أبناؤها وبناتها من أفراد عائلتنا. إذاً، يمكن لتصرف الفتاة الطائش أن يحرم إخوتها وأخواتها من شركاء زواج جيدين.

عندما بلغت سن المراهقة، كانت والدتي تعترض دوماً على ملابسي. فقد كانت مسلمة محافظة متحجبة ترتدي أثواباً تغطي كامل جسمها من الرقبة حتى الكاحلين. لكني تمردت على طريقة اللبس هذه. فرفضت طلباتها المتكررة أن أرتدي ملابس محتشمة وأبيت التحجب. اخترت أثواباً ملونة لم تكن قديمة الطراز. وفي الصيف، كرهت ارتداء قمصان تغطي ذراعيّ أو تنانير تمتد حتى الكاحلين. وما كنت أتردد في مجادلتها كلما اعترضت على أسلوبي العصري في اختيار الملابس. لكني أشعر اليوم بالخجل لأنني سببت لها الحزن والأسى.

ما زلت أذكر الفخر الذي شعرت به حين ذهبت للمرة الأولى إلى المدرسة. ارتديت زي الفتيات العادي، الذي تألف من تنورة وقميص حين كنت صغيرة. ولكن عندما بدأت دراستي الثانوية، ما عاد بإمكاني تجاهل إلحاح أمي وصرت أرتدي سترة فوق ثوبي.

كم أحببت المدرسة! فقد وسّعت عالمي، الذي اقتصر بادئ الأمر على أفراد العائلة. فتعرفت إلى أصدقاء جدد ومدرسين كانوا قد حشوا دماغهم بمعلومات كثيرة، حتى إنني تسألت كثيراً عما إذا كانت جمجمتهم ستنفجر يوماً. كنت فتاة فضولية، وقرأت أكبر قدر ممكن من الكتب، معظمها قصص عن أماكن وشعوب بعيدة. وسرعان ما أدركت أنني أتشاطر الكثير مع فتيات أخريات في مثل سني، بغض النظر عن البلد الذي يعشن فيه.

كانت حضارتنا لا تبيح للصبية والفتيات، الذين يرتادون المدرسة، الاختلاط خارج دائرة العائلة. لذلك كانت مدرستي مخصصة للفتيات فحسب. اتاحت لي المدرسة فرصة التعرف إلى عدد من الطالبات الفقيرات. فعلمني فقرهن أحد أهم دروس الحياة. ما زلت أذكر صديقة عانت عائلتها الفقر المدقع، حتى إن والدها لم يستطع أن يشتري لها اللوازم المدرسية وطعام فرصة الغداء. فقررت مشاركتها في مالي وطعامي ولوازمي المدرسية، ولم أتوقف للحظة وأفكر في ما سيكون تأثير ذلك في وضعي لأن دخل عائلتي كان متواضعاً. وقد أحسست بسعادة كبرى عندما رأيت رد فعلها.

منذ ذلك اليوم، تعلمت أن فرح العطاء يتضاعف إن كانت هذه المشاركة تسبب للمحسن مشقة. فمن السهل أن نعطي إن كنا نعيش في بحبوحة.

أذكر أيضاً صديقة أخرى لم تفارق الدموع عينيها. وعلمت لاحقاً أن والدها طلق والدتها حديثاً. ولم يُسمح لصديقتي المسكينة أن ترى والدتها، بل أُرغمت على العيش مع والدها وزوجته الجديدة. فتأثر قلبي الحساس بمشكلتها، لأن كل ولد يريد أن تبقى أمه بقربه. وأدركت أن العطاء لا يقتصر على الماء والأمور المادية. فقد تقدّم أحياناً لصديقك هبة كبيرة حين تضع مشاكلك الخاصة جانباً وتصغي إليه وتهتم بما يؤلمه.

شاء القدر أن ألتقي بصديقة الطفولة هذه أخيراً. فطار قلبي فرحاً حين علمت أنها وجدت السعادة في الجزء الثاني من حياتها. ارتدت صديقتي الحجاب بملء إرادتها، وهي اليوم متزوجة وتعيش حياة سعيدة. ولم أتفاجأ حين أخبرتني أن أولادها مصدر سعادتها الكبرى.

كان الصيف أفضل أوقات السنة لأن الأصدقاء والأهل كان يقصدوننا لينزلوا في بيتنا. استمتعت كثيراً بزيارات عمتي علياء، التي كانت تقيم في جدة في المملكة العربية السعودية. كانت عمتي علياء مميزة من شتى النواحي. فقد استحوذت على إعجاب كل مَن التقاها. وبما أنها اعتادت اتباع آخر صيحات الموضة خلال زياراتها، تفاجأت حين علمت أنها في المملكة العربية السعودية تلبس النقاب. ولكن في سوريا، اكتفت بارتداء أثواب محتشمة إنما أنيقة تغطي ذراعيها وساقيها. كذلك لفت شعرها بوشاح رقيق، إنما لم تغطِ وجهها.

تميزت عمتي علياء بطيبة فاقت سحرها وأناقتها. فكلما وصلتها أخبار عن عائلة فقيرة تناضل لتأمين قوتها، هبت لمساعدتها ومدت لها يد العون.

سمعت والديّ صدفة يتحادثان بصوت خافت عن زواجها الأول من محمد بن لادن، متعاقد ثري من المملكة العربية السعودية. فبفضل الصداقة الخاصة التي جمعته بالعاهل السعودي، الملك عبد العزيز آل سعود، أصبح زوج عمتي علياء الأول أحد أغنى الرجال في بلد يكثر فيه الأثرياء.

لم يدم زواجهما طويلاً، ورزقت عمتي بولد واحد من محمد بن لادن، ابنها أسامة. بعد طلاقها، اقترنت عمتي بمحمد العطاس، سعودي كان يعمل عند زوج عمتي الأول. كان العطاس زوجاً محباً لعمتي علياء وأباً عطوفاً لابنها. فلم أسمع يوماً أحداً يتكلم بالسوء عن زوج عمتي. وقد رزقت منه بأربعة أولاد، ثلاثة أبناء وبنت واحدة.

تعرفت إلى أولاد عمتي جميعهم جيداً لأنها كانت تصطحب كل عائلتها معها حين كانت تقصد اللاذقية لزيارة الأقارب. فتناولنا الطعام معاً في منزلنا في مناسبات عدة، مناسبات لطالما حفلت بالأحاديث الممتعة والضحك المرتفع. ولا شك في أن أسامة كان ضمن هذه المجموعة. شكّل ابن عمتي هذا، الذي يكبرني بسنة، جزءاً لا يتجزأ من حياتي.

عندما بلغت السابعة أو الثامنة من عمري، بدأت ذكرياتي عنه تعلق في رأسي. بدأ أسامة أكبر مني بأكثر من سنة ربما لأنه كان ولداً جاداً ودقيقاً في كل تصرفاته. فاعتبره الكثير من أقاربنا لغزاً، إلا أن الجميع أحبوه لأنه كان هادئاً جداً ولطيفاً.

إن أردت وصف أوساما الصغير الذي عرفناه كلنا، أقول إنه كان فخوراً لا متعجرفاً، رقيقاً لا ضعيفاً، وجاداً لا قاسياً. ولا شك في أنه كان شديد الاختلاف عن إخوتي الأشقياء الذين ما انفكوا يغيظونني. ما كنت قد تعاملت من قبل مع ولد جاد يتكلم بصوت رقيق. ورغم سلوكه هذا، لم يفكر أحد مطلقاً أن أسامة ضعيف الإرادة لأنه تحلى بشخصية قوية وصارمة.

عندما كانت عمتي علياء تزورنا، كانت العائلة برمتها تخصص يوماً للقيام برحلة إلى الجبال أو شاطئ البحر. خلال هذه الرحلات، كنا نحن الأولاد نركض فرحين، نتاسبق إلى الشاطئ، نلعب الغميضة، نربط حبل على غصن شجرة ونتأرجح، أو نقفز الحبل. ما زلت أذكر أن أسامة كان يختار بتأنٍّ عناقيد العنب الممتلئة ويقطفها من العرائش ويعطيني إياها لأتناولها. في تلك الأثناء، يروح إخوتي يصيحون بفرح لأنهم عثروا على بعض الجوز المقرمش تحت أغصان شجرة. في مناسبات أخرى، كنا نتسلق الأشجار المنخفضة لنقطف التفاح اللذيذ أو نقحم أيدينا في جنبات محملة بالتوت البري. ومع أن أمي كانت تحذرنا من الأفاعي، كانت فرحتي باللعب مع أقاربي تنسيني خوفي.

لكننا عرفنا أيضاً بعض اللحظات الحزينة. ففي الثالث من سبتمبر عام 1976، كان والد أسامة، محمد، على متن طائرة صغيرة تعطلت وتحطمت. فلقي الركاب حتفهم، ومن بينهم والد أسامة، الذي كان آنذاك في الحادية والستين من عمره.

ما كان أسامة قد تجاوز العاشرة من عمره، إلا أنه كان يكن لوالده الكثير من الحب والاحترام. لطالما كان أسامة متحفظاً في سلوكه وكلامه. إلا أن موت والده كان له تأثير كبير في حياته، فصار أكثر انطواء على ذاته. وقلما تحدث عن هذه الكارثة المأساوية لاحقاً في حياته.

خفضت والدتي صوتها حين أخبرتني عن خسارة أسامة. فشلتني الصدمة ولم يصدر عني أي رد فعل. لكني انسحبت بهدوء إلى الشرفة حيث رحت أفكر في حبي لأبي والفراغ الذي قد أشعر به لو خسرته.

هوايات مبهجة

صحيح أن المدرسة وسّعت آفاق ذهني، لكن هواياتي الأخرى أدخلت البهجة إلى حياتي. بخلاف ما يعتقده الناس عموماً عن حياة المسلمات المحافظات، كنت لاعبة كرة مضرب ماهرة. لا شك في أنني لم أرتدِ يوماً زياً خاصاً بكرة المضرب، بل كنت أختار ثوباً طويلاً لا يكشف الكثير من ساقي حين أقفز وأركض، فضلاً عن حذاء مريح، وكنت أتمرن لساعات. كان هدفي أن أسدد الطابة بالشكل الصحيح وأن أرد الإرسال بقوة كبيرة تجعل الفتاة الرقيقة الواقفة قبالتي تتسمر في مكانها وفمها مفتوح من شدة الدهشة. لكن ما شدني حقاً إلى كرة المضرب حبي للرياضة بحد ذاتها. وما زلت أسمع حتى اليوم تلك الضحكات العالية التي كانت تملأ الملعب حين كنت أنا وصديقاتي نلعب كرة المضرب.

أحببت أيضاً ركوب دراجتي الملونة المخصصة للفتيات. كنت أنتقي مرة أخرى ثوباً طويلاً لا يظهر الكثير من ساقيّ، ثم أهرب من المنزل مع إخوتي وشقيقتي لنجوب طرقات اللاذقية القليلة الانحدار. كنا نصيح ونضحك فيما ننطلق مسرعين بجانب الجيران المذهولين. واعتدت أحياناً ركوب الدراجة والتوجه إلى منزل إحدى صديقاتي أو قريباتي.

اختبرت طوال سنوات فرح الفنان المبتدئ، فيما رحت أرسم الوجوه والمناظر الطبيعية على قطع قماش وأوانٍ فخارية. أمضيت الساعات في مزج الألوان ونسج صور تروق لعين الفنان الكامن داخلي. وقد أُعجب إخوتي بنوعية اللوحات التي ابتكرتها، فتوقعوا أن تصبح نجوى غانم ذات يوم فنانة عالمية.

ما عاد بإمكاني اليوم التنعم بهذه الهوايات. ولكن رغم الأعباء الكثيرة الملقاة على كاهلي، بعد أن أصبحت أماً وحيدة مسؤولة عن أولادها، ما زلت أستمد شيئاً من المتعة باللجوء إلى مخيلتي. فأرسم في ذهني مشاهد جميلة ووجوهاً قوية معبرة، أو أتخيل عضلاتي تشتد تحت وطأة الدوس المتواصل صعوداً ونزولاً على تلة شديدة الانحدار، أو أتلذذ بطعم الفوز في مباراة لكرة المضرب ضد خصم لا وجه له.

أعتقد أن بإمكانك تشبيه نجوى غانم بن لادن بفنان بدون لوحات، درّاج بدون دراجة، ولاعب تنس بدون كرة أو مضرب أو ملعب.

كان لإخوتي هواياتهم أيضاً. أحببنا جميعنا الآلات الموسيقية. وما كان مستغرباً أن يسمع زوارنا صوت غيتار يتدفق من إحدى زوايا المنزل الخفية. أهداني شقيقي الأكبر ذات مرة آلة أكورديون. ولا شك في أني بدوت مضحكة وأنا أعزف عليها، بما أنني نحيلة ورقيقة، وهذه الآلة تناسب عازف موسيقى ممتلئ الجسم صلب العود.

back to top