بضعة ردود أفعال في "الفيسبوك" أثارتها مقالتي السابقة "مأزق الشاعر المُتفضّل". واحدة منها تستدعي الرد، ومزيد من الإيضاح. المقالة تحدثت عن ظاهرة الشعراء الذين يتصرفون كمتفضلين على قارئهم وجمهورهم وداعيهم في الندوات والمهرجانات، ولقد وجدتها سلبية، وهو أمر لا أعتقد أن أحداً يختلف معي فيه. ولكن تأويلي للعوامل النفسية التي تؤدي إلى مشاعر التفضّل هي موطن اجتهادي. وهي عادة ما تكون لدى الشاعر النجم، أو الشاعر الذي يسعى إلى أن يكون نجماً، لأن الشاعر النجم هو الذي يخرج من رحم ظاهرة "المهرجان".

Ad

أما الشاعر الذي لا يسعى إلى النجومية فهو الذي يخرج من رحم الكتاب.

أحد هذه العوامل أن الشاعر النجم، في سعيه إلى الجمهور، مضطرٌ أن يتخلى عن عناصر ثلاثة (وقد تكون أكثر!)، وجدتها جوهرية في بنية "التجربة الشعرية" الفريدة. وكما ورد في نص المقال قلت: "هذا الشاعر تنازل لجمهوره عن أخطر عنصر شعري فيه، وهو ذاته، وعن أخطر متطلبات هذه الذات الشعرية وهي العزلة، وعن أخطر ثمار هذه العزلة وهي الزهد".

الصديق شاكر لعيبي يتساءل "عن صواب تعميم الأمر بهذا الشكل الإطلاقي". ومع أني لا أعرف أين مكان التعميم، ومكان الإطلاق في كلامي، إلا أني سأتجاوز ذلك إلى إيضاح معنى الذات، العزلة والزهد للمتسائل المستنكر.

 شاعر المهرجان يعرف أن جمهور المهرجان الشعري الواسع لم يأتِ إلا ليكون عن قرب من النجم، وبدافع اجتماعي أيضاً. والنسبة الكبرى منه لن تصغي. وإن أصغت فلن تستوعب. ولكنه رغم هذه الدراية يطمع بجمهوره الكبير. وهذا الأمر لا يتم إلا بعنصر التنازل عن متطلبات "الذات" الشعرية بالضرورة.

وشاعر المهرجان، وليعذرني القارئ عن عدم تحديد مصطلح ظاهرة شاعر المهرجان في تعقيبي هذا، يعرف أن "الذات الشعرية" تتطلب بدورها ضرباً من العزلة، ينصرف فيها الشاعر لتأمل مقدار مصداقية صفة "الشاعر" التي ارتضاها لنفسه. وهذه العزلة شعرية، أي انها لا تعني، بأي شكل من الأشكال، القطيعة مع الحياة والناس، لا تعني عزلة المتصوفة في كهفٍ ناءِ.

العزلة الشعرية، أو الداخلية، تقتضي بدورها زهداً شعرياً أو داخلياً، زهدا في الوجاهة، والشهرة، وإغواء الجمهور. وهذا أمر يستعصي على قدرات شاعر المهرجان. لأن هذه الفتن هي سر حركته منذ بدأ. ولعلي أتردد في تعريف هذا الزهد بأنه ليس زهد المتصوفة، الذين يكتفون باللباس الصوف، والخبزة اليابسة. وقلت أتردد، لأني أتحرج من توضيح البديهة البسيطة.

هذا جوهر مقالتي السابقة، وعدم فهم البديهة فيها لا يتعدى العاملين التاليين: "عامل نفسي"، و"عامل معرفي" له علاقة بطبيعة ثقافتنا الأدبية أو العامة.

الصديق لعيبي يقول "يحق لنا أن نتساءل، لو فهمنا الكلمة بشكل سليم" وأنا أجيبه بأن له الحق أن يتساءل بالتأكيد، ولكنه للأسف لم يفهم كلمتي بشكل سليم. ولن أهمل العامل النفسي الذي أشرت إليه. لأني أعرف أن وراء تهويل العبارة والبلاغة المصوتة عادة ما يتخفى عامل نفسي لا يحق لي تفسيره. ففي تعليقه ترد العبارة المصوّتة التالية: "إن مشاركاته طيلة أربعين عاماً في المنابر والسجالات والاحتفالات والندوات التلفزيونية (على قناة الحرة لوقت طويل) والدعوات الشعرية العربية والعالمية والحضور المواظب في منبرين إعلاميين كويتي وعراقي، لا يبرهن على (عزلة) ولا على (زهد) في التواصل. إنها صورة افتراضية ومتخيَّلة عن شاعر يقبع في "برج عاجيّ" لا وجود له في الممارسة الفعلية".

إن كل الفاعلية التي نسبها لي، وأتمنى أن أحقق جزءاً يسيراً منها فما من شيء فيها معيب، لا علاقة لها بذات وعزلة وزهد الشاعر الداخلية، التي كانت محور مقالتي. الشاعر سعدي يوسف يقول: "أسير مع الجموع وخطوتي وحدي"، وهذا البيت الاستعاري ربما يصلح أيضاً لدعواي في مقالتي السابقة. أما العامل المعرفي فعميق الجذور في ثقافتنا، ملخصه: الارتياب من البديهة. إذ كيف يُفسر الخلط بين معنى "العزلة الشعرية الداخلية" ومعنى "اعتزال الحياة جملةً والقطيعة مع الناس"، وكذلك الخلط بين معنى "الزهد الشعري الداخلي" ومعنى "التخلي عن متع الفردوس الأرضي"؟ كيف يُفسر إلا بهذا الميل في ثقافتنا النقدية إلى التسطيح، وتجنب البديهة؟