يشير المترجم في مقدمة «الصورة: المكونات والتأويل» إلى أن الصورة هي في المقام الأول أداة تعبيرية، ولا تختلف في ذلك عن باقي أدوات التمثيل الرمزي التي يتوافر عليها الإنسان، لكنها لا يمكن أن تنفصل أيضاً عن العمليات كافة التي تقود إلى استنساخ واقع أو إعادة إنتاجه أو التمويه عليه من خلال المضاف التقني، بما فيها صناعة المشهد والوضعة وزاوية الرؤية، بل قد يصل بها الوهم إلى التصريح بإمكان استعادة هذا الواقع كما هو، استناداً إلى رؤية «وفية»، كما ألحت على ذلك التيارات كافة «الواقعية» التي جاهدت كي تجعل الصورة أداة للتعبير عن واقع، كما تراه، وترويضه وتوجيهه وفق غايات أيديولوجية مسبقة...

Ad

 ويعتبر بنكراد أن عمل الصورة يتوقف على قدرتها على استيعاب مجمل الأحكام والتصنيفات الاجتماعية واستعادتها كما هي مودعة في الأشياء والكائنات. بعبارة أخرى، يتوقف «الغنى الدلالي» داخلها على قدرتها على الاستعانة بالخبرة الانسانية في أبعادها الرمزية كافة. فالمعنى ليس معطى سابقاً لما يتم تمثيله في الصورة، إنه وليد ما خلفته الممارسة الإنسانية في محيطها بأشيائه وكائناته ومظاهره. والمعنى في الصورة، وفي الأدوات التعبيرية البصرية كافة يستند إلى معرفة سابقة، هي الدلالات التي منحتها الثقافة للأشياء وهيئات الإنسان وكذا عوالم التشكيل. يتعلق الأمر بدلالات مكتسبة تجاهد الصورة انتشالها، من خلال التمثيل التشخيصي، من بنيتها الأصلية وإدراجها ضمن بنية أخرى تمنحها خصوصية وتغني من أبعادها.

ويشير مترجم الكتاب إلى أن المؤلف توقف مطولاً عند عنصرين يعدّان، في مجال التعبير البصري، دعامتين يمكن من خلالهما قراءة الصورة وتحديد طبيعة الفضاءات الممثلة داخلها، ويمكن أيضاً من خلالهما تحديد تاريخ الصورة والتأثيرات التي كانت مصادرها الدين والثقافة والأيديولوجيا، العمق والمنظور. ولم يتوقف المؤلف عندهما كي يحلل أبعادهما في التشخيص وإنتاج المعنى فقط، بل فعل ذلك كي يبرر الاختلافات الحضارية بين نمطين من التعاطي مع التعبير الأيقوني: تصور الشرق (الصين واليابان أساس) الذي لا يكترث للمنظور ويتعامل مع العمق استناداً إلى تصنيفات اجتماعية تثمن الشخص المصور وفق انتمائه الاجتماعي لا استناداً إلى موقعه في الصورة، وتصور الحضارة الغربية التي تبنت المنظور وصاغت وفقه تصورها للفضاء والكائنات، واعتبرته معطى موضوعياً من طبيعة كونية. بذلك كانت تنتقل من المحلي إلى الكوني استناداً إلى هوس داخلها يميل إلى تعميم القوانين كافة التي أفرزتها سياقاتها التاريخية والثقافية تلبية لحاجات محلية وفرضها بجميع الوسائل على الآخرين باعتبارها تنتمي إلى الحقل الكوني كما يقول المؤلف.

إجابة وافية

يقدم كتاب غي غوتيي دراسات غنية لبعض الصور، كما يمكن أن تحيل إلى معانيها وكما يمكن أن تدرك في علاقتها بصور أخرى تنتمي إلى الثيمة ذاتها، لذلك يمكن القول إن الكتاب هو، بشكل من الأشكال، إجابة وافية عن السؤال الذي طرحة الناقد الفرنسي رولان بارث في الستينيات في القرن الماضي، كيف يأتي المعنى إلى الصورة؟ لقد كانت الإجابة آنذاك ناقصة، ومحدودية الجواب الذي قدمه تعكس محدودية التصور الذي انطلق منه في تلك المرحلة. إذ لم يعد ممكناً أن يقف التحليل عند رصد دلالة الأشياء والكائنات وممكنات التأليف بينها، كما لم يعد اسقاط الحلول اللسانية كافياً للدفع بالصورة إلى تسليم كل مفاتيح قراءتها. أصبح للمستوى التشكيلي دور مهم يهدي، بطريقته ووفق قوانينه، إلى تلمس الدلالات المتنوعة في الصورة. أنه إحالة على كل ما يشير إلى الآثار التي تركتها الممارسة الإنسانية في المظاهر التي تحضر من خلالها الأشياء في العين والنظرة.

لم يفت الكتاب الالتفاف إلى القضايا الخاصة بالدور الدعائي الاشهاري الذي تقوم به الصورة. في هذا السياق، تناول المؤلف خصوصيات صورة الموضة: خصوصية المشهد وخصوصية الديكور وخصوصية الوضعية. وهي عناصر تبدو في الظاهر تقنية لا تخص سوى وضع الصورة، في حين أن الأمر يتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق، إنه يحيل على وضع المرأة في المجتمع والسيرورات العسيرة التي قادت إلى تحررها وانعتاقها من المسبقات الاجتماعية. ففي الفصل الثاني عشر يقول: «كما كان مطلوباً من موديل 1911 الدلالة على الثبات والتحفظ الذي يميز بعض صور المرأة في بداية القرن، أصبح مطلوباً من موديل 1981 الدلالة على الحرية وانطلاق امرأة نهاية القرن».

يشير المؤلف إلى نمط بناء الصورة الإشهارية وطرق حضورها في العين. فالنموذج الممثل وكذا الإطار الطبيعي المحيط به لا يمكن فصلهما عن الغايات التجارية. لذلك، فإن الصورة الإشهارية، على عكس اللوحة أو الصورة الفوتوغرافية أو حتى بعض حالات الصورة الصحافية، لا تقدم نموذجاً يجب التوقف عنده، فالنموذج عندها يجب أن يظل مجهولاً، إنها لا تقول لك: تأمل جمال هذه المرأة، بل تقول لك: «تعال عندنا». ومن هنا يستنتج المترجم أنه «ليس غريباً أن تكون الصورة، استناداً إلى التحديدات السابقة كافة، أداة للتحكم والتضليل والتوجيه. فكما يمكن أن تكون نافذة تطل من خلالها الذات على عوالمها الأكثر ايغالا في القدم، يمكن أن تكون أداة لكل أشكال «الإقناع القسري» الذي يحدد للذات أشكال ردود أفعالها».

في مستهل الكتاب يقول المؤلف تحتل الصورة المسماة «ثابتة» مجالاً أقل تحديداً من الصورة المتحركة رغم قدمها، والتسمية المعطاة لها مستمدة أساساً من تعارضها مع نظيرتها المتحركة، وهذا يعني الشيء الكثير: لا يصبح الثبوت سمة مميزة إلا إذا كانت هناك في المقابل حركة. وهكذا فالصورة عبرت قروناً، حوالى الثلاثين، دون أن تُدرك باعتبارها مجموعة موحدة؛ وكان من الضروري انتظار اختراع السينما لتحصل، ظاهرياً على الأقل، على وحدة. والصورة الثابتة هي الصورة الفوتوغرافية والإعلان (المكتوب أو الفوتوغرافي) والرسم الصحفي وربما النحت الخشبي والأشرطة المصورة (متوالية من الصور الثابتة) ولماما ما تكون، والأمر يتعلق هنا بجنوح عاطفي، لوحة لسيزان أوماتيس. وإذا قبلنا بهذا التصنيف التبسيطي فإننا نجد أن الصورة الثابتة بالمعنى الشائع دائماً تتحدد تارة انطلاقاً من مادة الدال وطوراً من خلال مادتها، مرة بالتقنية المستعملة في إنتاجها ومرة أخرى باعتبارها مادة سردية. والحقيقة أنها ليست سوى غشاء عملي يسمح، خصوصاً بالحديث عن أي شيء كان باستثناء الصورة.

ويشير المؤلف أيضاً بأنه لا يدعي علم غير موجود، ولا يعلن عن ميلاد علم جديد. إنه يقترح مساراً يأخذ في الاعتبار السياق الثقافي (هيمنة أيديولوجيا خاصة للإدراك)، والسجل المزدوج للدلالة التي تفرضها ضرورة الموضوعات والأشكال. وكل فصل من هذا الكتاب يأتي انطلاقا من كون المؤلف يهتم بالصورة والمعنى لا بالجماليات.