الخبز الحافي... بخير جداً!
ربما تبدو صورة مترفة وساذجة لو أني كتبت عن الحزن الذي يتلبسني، وأنا أعاود المرور عند ذلك المخبز في منطقتنا مراراً منذ شهر يونيو حتى الأمس، ولا أجد في استقبالي الرجل الأفغاني الذي يجهز طلبي قبل وصولي إليه، أرتطم بصورتي المنعكسة على النافذة محكمة الإغلاق بقطع القماش البيضاء وشرائط اللاصق وقصاصات إعلانات النجارين، أشعر بالمرارة التي يعانيها من يفتقد الخبز في هذا العالم أجمع، وأبحث عن الحقيقة في الجملة التي نرددها يوميا، بأن "لا شيء ينقصنا، وأننا بخير... جداً"!وربما يبدو ترفاً إضافياً أن تركب فتاة مخضبة بالرأسمالية سيارتها وهي تردد أغاني العمال، وتستحضر أبيات الشاعرة السوداء مارغريت واكر: "أريد أن أمشي داخل أكياس البذور... لأسقط فوق أرض تأجل حرثُها"، الأبيات التي دونها الروائي جمال حسين علي في كتابه المؤلم حق الاحتراق "قمحة النار"، والشعور إياه الذي اجترحه الروائي محمد شكري في مقطوعته "الخبز الحافي"، والنيران إياها التي كانت تلفح وجه ذلك الأفغاني أمام فرن لم يعترف بالتخزين وكبسولات الخبز المبتكرة للفضاء؛ الثلاثي الذي يلعن أنطوانيت المطلة دوما بوجه المهرج كلما احتجنا خبزاً لتوزع البسكويت في قهقهاتها... أم أن هذا ضريبة الوضع الذي يطمئننا بأننا "بخير... جداً" ويوزع براميل النفط المثقوبة على شكل منح وعطايا لتعزيز شكل الدولة الريعية، لتستمر "الرفلة" تخبز وتجتر "خبزها المطبوخ".
"سعر الطحين مرتفع، والإضراب ينتشر بين الخبازين"، هذه إجابة العامل الذي حفظ وجهي الباحث عن الرغيف الساخن، أبحث عن أخبار ذلك الإضراب ولا أجد سوى أخبار متفرقة بعضها قديم، أحدها مقال ينتقد الإضراب ويدعو إلى الضرب بيد من حديد عقوبة، وأحاديث تروج لإشاعة الطحين المسرطن، وخبر يكشف محاولة قنصل سفارة لتهريب الطحين المدعوم بحاوية خارج الكويت، وأخيراً مقطع مصور لأطفال ينثرون دقيق القمح الأبيض تسلية، في البلد الذي لم يستزرع الصحراء بعد. تلك الأخبار لم تبح بأكثر من ذلك، ولكنها استحضرت في رأسي ثورات الجياع في مصر التي أطلقها الآلاف في الفيوم عام 1977 مرددين: ""همه بياكلوا حمام وفراخ واحنا الفول دوخنا وداخ" بسبب بيع التجار الدقيق المدعوم في السوق السوداء، ومثلها في تونس 1984، والجزائر 1986، والأردن في 1989 و1996 وغيرها، ثورات قوت لا تقل إرادة عن ربيع ثورات الحرية من حولنا.ورغم أن هذه الثورات انتفاضات جياع، بينما أفواه سياسيينا ومحللي قضايانا متخمة بأحاديث العملة الصعبة والتضخم المالي، ولكننا مغمورون بمتعلقاتها؛ تدني مستوى التعليم والرعاية الصحية، توزيع الوظائف الهامشية بلا إنتاج، تذبذب النمو الاقتصادي والثقافي، التطاحن العنصري في مجتمع ما زال يحتفي بالفئوية ويعيد صياغة العنصرية بشكلها الطائفي والقبلي، تأجيل أزمة البدون ومنع تعليمهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية- فما زالت الصحراء تحتضن العشوائيات ومخزون أمغرة للحرائق لم ينفد حتى الآن!- الزحام في طرقات تشق دروباً ضيقة لتسيير الأفواج، وجود الرقيب من حولنا في كل مؤسسة يوزع قائمة الطعام، والقراءة، والسلوكيات التي يمكن تأديتها بحسب "الخطة الموضوعة بعناية"، ووجوه الناس المتعبة... فهل هذه من علامات البلدان التي "بخير جداً"؟هل أحتاج دليلاً إضافياً؟ نافذة المخبز ما زالت محكمة الإغلاق، ومارغريت واكر تقرئنا لعنة الأراضي الشاحبة، وتردد: "إلى متى، ستبعدني عصابات الكراهية، وكلاب الأغلال، عن بيت نفسي؟".