مكمن السحر
اللغة العربية تمتلك قدرة عظيمة على التشكل والتلون والإيحاء، ولها سلطة وطاقة قادرة على النفاذ والعبور إلى تلك الأحاسيس الغامضة والكامنة في أعماق المتلقي، وهنا يكمن سحرها وتأثيرها العجيب الآتي من دفء طاقتها وحيوية بلاغتها وسطوة مجالها التأثيري النابع من قدرة حروفها على التغير الصوتي وتنقل طاقة حركته ما بين الخفة والثقل والخشونة والنعومة، والعالي والخافت والانكماش والتمدد، والتبسيط والتهويل الناتج من أصوات هذه الحروف ورنين موسيقاها وما تبثه من حركة تأثيرية درامية في وجدان المتلقي، خاصة إذا صيغت بوعي مبدع مدرك لقوة مفعول خصائصها وقادر على عجنها وتفجير كامل طاقاتها المدفونة فيها.وهذا ما يسحرني في اللغة العربية التي تتيح للكاتب مجالا واسعا للعب والمغامرة في إجراء تجارب عديدة في طرق استخداماتها، البعيدة عن الطرق التقليدية الروتينية الشائعة في الكتابة التي تتبعها الأغلبية لسهولة كتابة لا تستدعي القيام بالمغامرة في التجربة ودفعها لأقصاها من دون الشعور بالخوف والتردد من عدم تقبل الآخرين لها، وأحيانا يكون من الأفضل عدم قيامهم بهذه المغامرة لأنها بالفعل تتطلب وعيا وإحساسا شديدا بمفعول اللغة، وعلى الأخص إدراك مفعول الكلمة وحتى نوعية الحرف ومدى تأثير صوته ما بين وقوعه في أول الكلمة أو في آخرها، فهذه لها تأثيرها برغم انها ليست إلا حرفا بكلمة، فكيف يكون تأثير عدة كلمات صيغت بهذا الوعي الفني بها حتى شكلت جملة بات لها مفعول سحري مفجر لإحساس القارئ وخالب للبه، وهو ما يفعله الشعر العظيم والكتابات المماثلة له، وأقصد بها تلك الكتابة التي تكثف المعنى وتحميه من الترهل والكلام الفائض، وتمنحه في ذات الوقت جوهر المعنى حتى وإن كثرت تفاصيله.
لكن اللعب في توليد وتفجير طاقات اللغة لا يعني التكلف أو المشقة والانتباه الشديد لتفاعلات التركيبات في حروف الكلمات ومدى تفاعلها مع بعضها بعضا في تلاحم أو تشابك أو تجاور الكلمات والجمل في نسيج النص المكتوب التي غالبا ما تتوالد بطريقة إبداعية عفوية ناتجة من إدراك المبدع الخفي بها، والذي لا يشعره ولا يحس به وهو يكتب، لكنه مخزن في تلافيف وعيه المشبوك في شبكة خلاياه وأعصابه الحسية كلها القادرة وحدها وبجهودها الذاتية على الفرز والتميز والإدراك والفصل بين أدق المعاني وأرهفها وأنسبها للمادة التي تُكتب الآن، فتقوم بدفع أو قذف الكلمة المنحوتة والمصقولة والمشحونة بكل الانفعالات المطلوبة في هذا المعنى بالذات دون أي كلمة أخرى مشابهة لها أو قريبة من معناها، حس المبدع وحده يعرف كيف يأتي بالكلمة المضبوطة وليس أي البديلة أو المشابهة أو القريبة. خزان الوعي السري الغامض هذا هو ما يميز ويفرق ما بين الشعر الجيد والشعر الرديء أو النص الجيد والنص الرديء، وهو ما يتأتى من مدى حساسية الشاعر أو الكاتب وإدراكه بديناميكية اللغة وقدرتها على توليد طاقة حية جديدة من إدراك قادر على الغوص في مفاهيم اللغة واقتناص سحر تراكيبها وفتنة رنين حروفها وطاقة جذبها المغناطيسي لأحاسيس قارئها، هذه القدرة العجيبة التي اكتشف سطوتها الرهيبة، واستغلها كبار السحرة في الإيحاء واستلاب المرضى الذين يلجأون لهم، فالسحر ليس إلا استغلالا لطاقة الحروف المغناطيسية وتجميعها في جمل تمنحها حقولا من طاقة إيحائية تؤثر في متلقيها، وهو الأمر والتأثير ذاته الذي تحدثه الكتابة العظيمة في متلقيها، فالكتابة قادرة على منح القارئ شعورا بالفرح والسعادة، أو القلق والخوف والتعاسة، بل إنها قادرة على توقيف ضربات القلب، أو إحداث هيجان أو عنف أو حتى الدفع إلى الانتحار أو تغير مسارات الحياة كلها، مثل الكتب الدينية أو السياسية أو تلك التي نادت بأفكار وطرح مذاهب، فكل ما أثر بالناس جاء من وليد كتابة عنفوانية عرفت كيف تستغل طاقات اللغة المؤثرة الحية وعرفت كيف تجاور فيما بينها لتحدث تأثيرها المطلوب.فهل هناك من يدعي أن لغتنا العربية لغة ميتة مندثرة؟أظن أن العيب آت ممن لا يعرف كيف يخرج من لغتنا قيمتها وسحرها وروعة جوهرها.