الإنسان صنيعة اختياراته وقراراته وردود أفعاله في الأغلب، فحياة الواحد منّا بأسرها عبارة عن سلسلة لا تنقطع من الصعوبات والتحديات والمواقف التي تتطلب منه اتخاذ القرارات وحسم الاختيارات وإعطاء ردود الأفعال المناسبة.

Ad

نعم، صحيح ولا شك أن المقادير هي التي تضع الإنسان في الظروف المختلفة وتوقعه في المصاعب والابتلاءات، لكنه هو من يختار ويقرر على إثر ذلك أن يتحرك أو يقف، أن يسير إلى الأمام أو يتراجع إلى الخلف، أن ينعطف يميناً أو يساراً. ومع كل خطوة في كل اتجاه فإنه ينتقل من قدر الله إلى قدر الله، كما قال عمر رضي الله عنه يوما: إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله.

بل حتى الإيمان والكفر، والذي هو القرار والاختيار الأهم في حياة كل إنسان، هو اختيار حر للمرء وحده بعد أن يتبين له السبيل؛ ألم يقل الله عز وجل في الإنسان "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا"، وقال في سورة البقرة "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"؟

إن الإنسان هو من يقرر ويختار ويتخذ ردود الأفعال، وهو بذلك من يرسم لوحة حياته وينقل نفسه من حال إلى حال، سواء أكان الأمر بعد ذلك سهلاً أو صعباً.

واتخاذ القرارات وحسم الاختيارات في الحقيقة ليس بالأمر الهين، بل إن من الناس من لا يستطيع أن يتخذ حتى أبسط القرارات ولا أن يحسم أسهل الخيارات، ناهيك عن مواجهة تلك القرارات المعقدة والاختيارات الصعبة. كثيراً ما تختلط عند المرء الأفكار المتضاربة والمشاعر والانفعالات عندما يقدم على اتخاذ القرارات وحسم الاختيارات، وبقدر تعقيد هذه وصعوبتها يكون اختلاط الأفكار والمشاعر والانفعالات أشد ضراوة وصعوبة؛ لذلك ينقسم الناس في مثل هذه المواجهة إلى ثلاثة أشخاص:

شخص يستطيع أن يفصل ما بين الأفكار المختلفة ويفندها فكرة فكرة بطريقة موضوعية صرفة فيعزلها عن التأثر بحزمة الانفعالات النفسية التي تجيش في صدره، وهذا الشخص شخص نادر قليل الوجود. وشخص ثانٍ يتسرع في اتخاذ القرارات وحسم الاختيارات مدفوعاً بعواصف أفكاره ومنجرفاً مع سيل حمم براكين مشاعره فتكون قراراته واختياراته ردود أفعال متسرعة بعيدة عن الصواب في الغالب الأعم. وشخص أخير تأخذه الحيرة وتشله الصدمة فلا يستطيع اتخاذ القرار ولا حسم الاختيار، ليظل متردداً يؤجل البت في الأمر، بل قد ينتهي هارباً من المواجهة بأسرها.

والحقيقة أن من النادر أن نجد شخصاً لم يمر بهذه الحالات المختلفة في مراحل حياته المختلفة، لأن من الصعب أن يكون الإنسان من ذلك الطراز الفريد القادر على حسم الأمور واتخاذ القرارات الصعبة بذهن حاضر صافٍ طوال الوقت، فهذه الحالة لا يصل إليها الواحد منّا عادة إلا من خلال المرور بالعديد من التجارب والتدريبات الحياتية التي تصقل شخصيته فتجعله على هذه الشاكلة المتميزة، بل إن أغلب الناس يتجاوزون عمرهم كله ولا يصلون إلى ذلك أبدا.

وجميعنا قد مررنا في الواقع بهذه الحالات المختلفة أمام قراراتنا الصعبة واختياراتنا المعقدة، فلطالما تسرعنا في القرارات والاختيارات فوقعنا في الخطأ، ولطالما ترددنا وتلكأنا وأضعنا الفرص الجيدة التي ما كانت لتتكرر، لكن الرابح منّا حقا، من استطاع أن يتعلم من أخطائه وأن يكتسب الخبرة من عثراته وزلاته، ليصبح إنساناً أفضل وأقوى. أن يصبح إنساناً قادراً على مواجهة تلك التحديات المتعاقبة والتي لن تتوقف المقادير عن إلقائها في طريقه. وسأعود هنا لأكرر ما بدأت به بأن الإنسان، في كل الأحوال، سيظل دوماً صنيعة اختياراته وقراراته وردود أفعاله.