الفهم الملتبس للقصيدة الجاهلية
نجد في قراءات الشعر الجاهلي الملمح الأكثر تعقيدا، بينما يتعلّق بمسألتي التفسير والتأويل، وبرغم ما يحكى عن فروق مميزة لهذين الملمحين لدى بعض النقاد، تبقى مسألة قراءة الشعر، واستقرار فهمه متشعبة على مدى قرون عدة، ليس أقربها بالطبع ما يثيره طه حسين من منهج متشكك حدّ الإلغاء، والإقصاء لجانب مهم من تراثنا العربي، وليس أقربها كذلك ما تحدثت عنه البنيوية العربية الراهنة، وفي مقدمتها طروحات الناقد الإشكالي كمال أبوديب، ودراساته المتعددة في هذا المجال، ابتداء من كتابه «الرؤى المقنعة»، وما تبعه من بحوث ودراسات متفرّقة أخرى.ويتشعب فهمنا للشعر الجاهلي، كذلك بقدر تشعّب موضوعاته، وتداخل عوامل انتقاله، وترسّبات البيئة الشفاهية الناقلة له، ما نجم عن ذلك من حديث عن الانتحال والوضع، وإضافة قصائد بكاملها لهذا الشاعر أو ذاك، يساعد على ذلك الفهم القبلي القائم على عوامل الفخر والفروسية، والمناقب الحسنة، وما شابه ذلك، وقد تكون المعلّقات هي الظواهر الشعرية الأكثر استقرارا، مقارنة بقصائد أخرى منحولة من هنا وهناك، ذلك برغم التشكيك القائم حتى على المعلقات ذاتها، أو بعضها في أحسن الأحوال.
وبحسب د. نذير العظمة فإن كمال أبوديب «نافح عن النقد الشعري الذي يهتم بالنص. ويؤمن بسلطته. ويعريه من كل ما حوله من تاريخ وسيرة ومناسبة ولذلك فهو يصرح في دراسته لمعلقة لبيد بأنه سيستفيد من منهج ليفي شتراوس. فيزاوج النزعة الألسنية بالمنهج الأسطوري. وتصبح عنده الثنائيات الضدية لغة وتركيباً وسياقات ومفردات، ذات دلالات أنتربولوجية مرتبطة بالأسطورة وإن لم تتضمنها صراحة في النص». ولم يكن أبوديب مراوغا أو ملتبسا في تطبيقه للمنهج البنيوي، بل كان صريحا حدّ الصدام مع كثير من النقاد الذين رأوا في منهجه مجرد تطبيق جامد لآلية تقنية استخدمها الأوربيون قبل عشرين سنة، ثم انتقلت إلينا متأخرة في أوائل الثمانينيات، في حين أن البنيوية شهدت أوجها في فرنسا إبان حقبتي الخمسينيات، والستينيات.ومن أهم القضايا التي تؤخذ بالحسبان، حين نتأمل أو نقرأ الشعر الجاهلي، ومن بينها المعلّقات، مسائل فنية مشتركة من بينها الوقوف على الأطلال، وظاهرة المدح، وسردية القصيدة، وارتباط هذه المسائل جملة بالبعد النفسي للشاعر الذي يصل إلى مبتغاه من المدح والمكافأة المادية بعد رحلة طويلة تتمثل في بعد المسافة، ومن ثم الإرهاق النفسي، ولواعج الشوق، وبعد الأحباب، ولذلك فإن الباحثة د. إيمان عيسى الناصر ترى في كتابها «وحدة النص» أن «الوقوف على الأطلال في التفسير الوجودي ما هو إلا صورة للصراع المرير بين البقاء والفناء، حيث اجتهد المؤولون في أن يضفوا عليه طابع التأمل الفلسفي، وأما في التفسير النفسي فقد وصف بكونه تعويضا عن حالة الحرمان والفقدان واستجداء لحظات التذكر وهوس المكان». وتذكر الباحثة كذلك ظاهرة أخرى تربط الطلل بالشمس، فيما يتعلّق بالتفسير الأسطوري، و»يعلل المفسرون الذين يذهبون هذا المذهب بعلاقة الخصوبة بين المرأة والشمس، ودلالات ذلك في المقدمة الطللية، إذ يرمز الشعراء إلى المرأة بالشمس».تجتهد إيمان الناصر في ذكر تشعبات متداولة لقراءة وفهم القصيدة الجاهلية، حتى وإن دعاها ذلك إلى التطرّق لفهم غامض وإشكالي، كما هو الحال مع المحور الأسطوري، الذي يخضع للافتراض والتأويل الغامض في كثير من الأحيان.لم يتغلغل البنيويون العرب الآخرون في مسألة قراءة الشعر الجاهلي، وانتحى بعضهم إلى مسائل أدبية أكثر حداثة، كما هو الحال مع الرواية، والنصوص السردية الأخرى، في حين بقيت القصيدة العربية القديمة، جاهلية وعباسية وأموية، تراوح مكانها جراء قراءات مُستَنسخة، وتراثية تأخذ المعنى وتعيد إنتاجه، وكان بوسع النقاد العرب، إن هم شاؤوا، استنتاج مسائل تاريخية واجتماعية من قصيدة كانت عصية حتى على النهج البنيوي ذاته، فاستكشاف مسائل من خارج النص، وإيغالها إلى بطن المعنى كان أمرا ضروريا للفهم والتأويل، الأمر الذي تجاهله هؤلاء النقاد الحَرفيون في تطبيقاتهم، ما أدّى إلى تحجيم البنيوية، وبقائها عند نقطة واحدة لا تراوحها.