يشعر المرء في المجتمعات الراقية بقيمته ويحقق ذاته عندما يعمل، ولهذا تحارب هذه المجتمعات البطالة لأنها تحرمهم من تحقيق ذواتهم وتشعرهم بالدونية، لهذا قدسوا العمل، وجعلوه كما قال الإسلام عبادة وديدن حياة، فأتقنوه وأخلصوا فيه وأبدعوا وبلغوا به غاية الإتقان، ووضعوا له القوانين المنظمة، وألزموا أنفسهم بها وحاسبوها.

Ad

أما في مجتمعاتنا فالمرء لا يحقق ذاته من خلال العمل بل من خلال نوعية هذا العمل وتأثيره في الآخرين واحتياجهم إليه، فتجد الكثير يحاولون بكل السبل البحث لذويهم عن الوظائف السيادية الحساسة التي تمنح السلطان والمال والمكانة الاجتماعية والوجاهة، حتى لو ارتكب في سبيل ذلك كل المخالفات القانونية وعصى الأوامر الشرعية.

لماذا؟ لأنه عندما يصل إلى هذه الوظيفة يصبح العمل نوعاً من "الفرعنة" يذهب إليه وقتما يشاء وينصرف متى يحلو له الانصراف، يداوم أو لا يداوم "كيفه"، يلتزم بقوانين العمل أو لا يلتزم "هم كيفه" لا تفرق عنده، ويجد من يشجعونه على ذلك، ويحلو لهم فساده وإفساده، ويتحول انحلاله إلى نوع من الوجاهة التي يفخر بها الكثير من أقاربه وممن حوله.

ما ذكرناه غيض من فيض، ولهذا أصبح البون شاسعاً بيننا وبينهم، واتسع الخرق على الراقع، هل يا ترى الموظف في أوروبا أو العامل في اليابان سمع أو قرأ قوله تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"؟ ولكن أصبح الأمر كما قال الشاعر:

قد أسمعت إذ ناديت حياً

ولكن لا حياة لمن تنادي.