قضاؤنا الشامخ يتعرض لهجمات شرسة، وقضاتنا العدول يتعرضون لحملات ظالمة، سياسيون وبرلمانيون وقانونيون ومغردون وشارع مضلل يشككون في نزاهة قضاتنا، ويطعنون في عدالتهم، ويتدخلون في عملهم، ويتطاولون عليهم، افتتاحية صحيفتي "الجريدة" و"الوطن" الكويتيتين "إلا القضاء" كانت معبرة ومحذرة من أن السيل قد بلغ الزبى.

Ad

أطراف سياسية تستغل الجماهير وتدفعها إلى الشارع لمحاصرة مؤسسات العدل وإرهاب القضاة، يرفضون حكم القضاء العادل ويبتغون حكم الشارع بديلاً، القضاة اليوم أصبحوا مستهدفين في أرواحهم، في ليبيا اغتالوا القاضي الذي أمر باعتقال اللواء عبدالفتاح يونس الذي اغتيل في ظروف مضطربة، وفي العراق مسلسل قتل القضاة مستمر وآخرهم رئيس جنايات كركوك، واضطر القاضي الذي حكم في قضية مبارك إلى الهجرة إلى فرنسا بعد الهجوم الشديد عليه.

كانت، في ما مضى، سلطاتنا السياسية هي التي تتدخل في القضاء وتعتدي على القضاة في مذبحة القضاة بمصر 1969، والاعتداء على فقيه مصر العظيم السنهوري 1954 لأنه دافع عن الدستور والديمقراطية ضد حكم العسكر، اليوم انقلبت المعادلة، مؤسسات العدل ورجالها يتعرضون لعدوان من الشارع وممن يفترض فيهم حماية حصون العدالة.

يقول المستشار محمد حامد الجمل "النيران مفتوحة على قضاة مصر من أطراف تريد الهيمنة والاستحواذ على الدولة بصورة أبشع من النظام السابق"، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً بحل البرلمان المصري الذي يهيمن عليه الإسلاميون وببطلان قانون العزل الذي استهدف حرمان شفيق من الترشح الرئاسي، وقضت المحكمة الدستورية الكويتية بانعدام مجلس 2012 وعودة مجلس 2009 بقوة الدستور.

وعلى خلفية أن الحكومة التي رفعت مرسوم الحل لم يكن لديها الصفة القانونية، قامت قيامة الأغلبية البرلمانية في البلدين، إذ أتاهم الحكم من حيث لا يحتسبون، فشكّل صدمة أفقدتهم حسن التصرف في القول والفعل، فقاموا بالتشكيك في الحكم والتقول على القضاة والانسياق وراء نظريات التآمر، وتعبئة الجماهير للاحتجاج على القضاء، وما كان ذلك جائزاً ولا لائقاً في مجتمع يحترم القضاء، فالحملة على "الدستورية" والقضاء حملة على الدستور والقانون نفسيهما.

جماعة الإخوان في مصر رفضت قرار الحل وصعّدت، وحاول نوابها اقتحام البرلمان، ولجأت إلى الشارع حكماً، ووصف أبوالفتوح الحكم بالانقلاب الكامل، ووصلت أصداؤه إلى قطر ليؤكد أحد خطبائنا بأن الحكم مؤامرة! وكتلة الأغلبية في الكويت اجتمعت وقررت أنها في انعقاد دائم، وأصدرت بيانها الأول قائلة: إن حل مجلس 2012 بسبب خطأ إجرائي، بدعة مستوردة ومرفوضة، وإن ما حدث انقلاب على الدستور، وراهنت على الشارع حكماً!

وفي بيانها الثاني الموجه إلى القضاء، صعّدت – في تجاوز سافر لمبدأ الفصل بين السلطات وإهدار لهيبة القضاء وتعدٍّ على العدالة وتدخل في صميم عمل القضاء– لتقول: إن حكم الدستورية منعدم لأنها تجاوزت صلاحياتها!  نصبت الأغلبية نفسها حكماً فوق "الدستورية"، وحكمت بأن تشكيلها باطل، ومن ثم فقرارها منعدم ومجلس 2012 قائم ومستمر تحت رئاسة السعدون! هؤلاء إذ يشغبون اليوم ويتعدون فقد شغبوا من قبل، إذ وصفوا المحكمة التي برأت الأمن من الاعتداء على الوسمي بأنها "محكمة الفريج"، وطعنوا في نزاهة القضاة بقولهم: من تقاضي إذا كان خصمك القاضي، وما هم بضارين القضاء العادل وأهله بشيء بل يضرون أنفسهم ولا يشعرون.

سيظل القضاء الكويتي شامخاً بمنأى عن التطاول والتشكيك والتعديات، والذين يكيدون للقضاء، كيدهم يرتد عليهم، ولن يستطيع أحد أن يهز من مكانة القضاء الكويتي، مرجعية المجتمع الكبرى في الحق والعدل والحصن المنيع للحريات والملاذ الآمن للمظلوم والضعيف، والمنارة الهادية عند اشتداد الظلمات وانتشار الاضطرابات وتصاعد الأهواء.

القضاء الكويتي هو محط آمال المجتمع في إحقاق الحق ودحض الباطل، وهو ليس طرفاً في خصومة أو صراع، والتقاليد الراسخة تقضي بأن القاضي ينفصل عن حكمه بمجرد صدوره، فلا يتحدث عنه تأييداً ولا دفاعاً، نأياً بالقضاء من الدخول في صراعات أو الانحياز لجهات وحفظاً لهيبة واستقلالية القضاء، فهل من العدل أو الشجاعة أن يستمر المتطاولون في الإساءة إلى القضاء بمقولات وهمية عن نظريات التآمر والحكومة الخفية واللهو الخفي، وهم يعلمون أن القضاء لا يملك حق الرد أو الدفاع؟! وهل من المروءة أو من أخلاق الرجال أن تستغل المنابر والشارع والديوانيات في التهجم على القضاة الممنوعين من الشرح والتوضيح؟!  القضاء الكويتي في غنى عن الدفاع، فتاريخه المشرف خير دفاع، لكن ذلك مهمة المجتمع كله ومهمة المثقفين والقانونيين ومنظمات المجتمع المدني، ومهمة وزير العدل بالدرجة الأولى، وليته سكت! ففي دفاعه الأول عن القضاء أدلى بتصريح ضبابي مضطرب، وفي دفاعه الثاني في مؤتمره الصحافي عن المحكمة الدستورية جانبه التوفيق، إذ وصف "الدستورية" بأنها "محكمة سياسية" وهو خطأ بيّن، ودعانا إلى تفهم حكم "الدستورية" بحل مجلس 2012 في "إطاره السياسي" فماذا ترك للمشككين الذين رموا المحكمة بالتسييس؟!

إن المحكمة الدستورية وسائر المحاكم بكل درجاتها، هي الأبعد عن السياسة وأهوائها، ولو كانت "الدستورية" في كل تاريخها المضيء، معنية بالسياسة وحساباتها لما تصادمت مع السلطة تارة، ومع الرأي العام تارة أخرى، ولا أيدت هذه المرة بقاء مجلس 2012 فذلك منطق الحسابات السياسية اليوم، لو لم يكن القضاء الكويتي بمنأى عن جميع التدخلات، ومحصناً ضد كل الضغوط ومتجرداً من كل الأهواء، لجاءت أحكامه مسايرة للأغلبية البرلمانية، ولصانع الرأي العام والحكومة معاً في شرعية المجلس المبطل، ولاكتسب استحساناً جماهيرياً عريضاً، ويكفينا شهادة قطب المعارضة الكويتية التاريخي الخطيب في قوله: إن الحكم الدستوري أنعش الآمال وجدّد الثقة في السلطة القضائية.

ختاماً: يلاحظ اليوم كل التعليقات والانتقادات على الأحكام، وهناك المبررون والمسوغون بحجة: لا عصمة لقول، وقد عشنا زمناً يقال لنا: حكم القضاء عنوان الحقيقة، وأنه لا تعليق على الأحكام تأييداً أو رفضاً، ويهمني في هذا المقام رفع وعي الناس وتذكيرهم بجملة من التقاليد القانونية الراسخة في البلاد المتحضرة في التعامل مع أحكام القضاء.

ومن كتاب قيم "الحق في التعبير" للدكتور محمد سليم العوا، وهي  1- القضاة في ممارسة عملهم لا يجوز تناولهم مدحاً أو قدحاً، فهم في تجردهم لإحقاق الحق أغنياء عن الثناء ومبرؤون من المذمة.

2- الأحكام لا تتناول بالتعليق إلا إذا أصبحت نهائية، ويعلق عليها أهل الاختصاص في حدود العلم القانوني ومصطلحاته.

3- دوافع القاضي وأسلوب إدارته وعقيدته الدينية أو السياسية أو الفكرية وبواعثه واتجاهاته الشخصية، مناطق محرمة لا يجوز الحوم حولها.

4- احترام هيبة القضاء "السلطة" والقضاة "الأفراد" ضرورة لا مفر منها لاحترام سيادة القانون ورسوخ ميزان العدالة في أيدي قضاة مطمئنين إلى حفظ أقدارهم، وصون كرامة محاكمهم، رضينا بالأحكام أم غضبنا لها.

* كاتب قطري